ما قل ودل: ولاية المحكمة الدستورية في تفسير النصوص الدستورية 2- 3
الإفتاء يصدر من جهات الفتوى لا من المحاكم، والمحكمة إذا ذكرت أسباباً في حكم من أحكامها، فهذه الأسباب تعتبر قضاء يؤخذ به، وتكون له من الحجية ما لمنطوق الحكم من حجية، شريطة أن تكون هذه الأسباب مرتبطة بالمنطوق ارتباطاً وثيقاً أو متصلاً به اتصالاً حتمياً بحيث لا تقوم للحكم قائمة إلا بها، أما إن استزادت المحكمة في أسباب حكمها، لتفتي فيما عُرض عليها من نصوص، استطراداً زائداً عن حاجة الدعوى، ويستقيم الحكم من دونها، فإن هذه الأسباب لاتعد قضاءً يؤخذ به، ولا تكتسب أي حجية.
في مقالي الاثنين الماضي تحت العنوان نفسه تناولت قرار المحكمة الدستورية في طلب التفسير رقم 3 لسنة 1986، والذي قررت فيه أنها تستمد ولايتها في تفسير النصوص الدستورية من الدستور مباشرة، وليس من نصوص القانون رقم 14 لسنة 1973 بإنشاء المحكمة، مما يجعل هذه الولاية عصية على الإلغاء إلا بتعديل دستوري، وهو المبدأ الذي استشهدت به في مقالي «حقوق المرأة السياسية غير قابلة للإلغاء تشريعياً» والمنشور في هذه الزاوية في الحادي عشر من الشهر الماضي. إلا أنني استمحت المحكمة عذراً في أن أختلف معها في ما استندت إليه من أن ولايتها بتفسير نصوص الدستور، استقلالا عن أي منازعة في دستورية القوانين، إنما تستمد من الدستور مباشرة وقد عرضت في مقال الاثنين الماضي أسانيد المحكمة في ذلك، لأتناول الرد عليها في هذا المقال، حيث أرى أن هذه الولاية تستمدها المحكمة من المادة الأولى من القانون رقم 14 لسنة 1973 بإنشاء المحكمة، وليس من الدستور، لأن ولايتها في ذلك هي استثناء من الأصل الطبيعي أن المحاكم تحكم ولا تفتي، وأن أحكامها قضاء لا فتوى. فالإفتاء إنما يصدر من جهات الفتوى لا من المحاكم، والمحكمة إذا ذكرت أسباباً في حكم من أحكامها، فهذه الأسباب تعتبر قضاء يؤخذ به، وتكون له من الحجية ما لمنطوق الحكم من حجية، شريطة أن تكون هذه الأسباب مرتبطة بالمنطوق ارتباطاً وثيقاً أو متصلاً به اتصالاً حتمياً بحيث لا تقوم للحكم قائمة إلا بها، أما إن استزادت المحكمة في أسباب حكمها، لتفتي فيما عُرض عليها من نصوص، استطراداً زائداً عن حاجة الدعوى، ويستقيم الحكم من دونها، فإن هذه الأسباب لاتعد قضاءً يؤخذ به، ولا تكتسب أي حجية.وهي قاعدة تسري على المحكمة الدستورية في ما تفصل فيه من منازعات متعلقة بدستورية القوانين والمراسيم بقوانين واللوائح أو من طعون متعلقة بانتخاب أعضاء مجلس الأمة أو بصحة عضويتهم، فالمحكمة الدستورية لا تملك في هذه المنازعات إلا تفسير النصوص الدستورية التي لا يقوم للحكم في المنازعه قائمة إلا بها، أما غير ذلك من نصوص دستورية استطردت إلى تفسيرها في أسباب حكمها، فهي فضلةٌ تزيد عما يحتاج إليه الفصل في الدعوى لا تكون لها حجية باعتباره خروجاً على الأصل في ولاية القضاء. وأن العبارة -التي استندت إليها المحكمة- في المادة (173) من الدستور التي تعهد إلى المحكمة «بالفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين واللوائح» لاتحتمل سوى معنى واحد هو الاختصاص القضائي بالفصل في منازعة قضائية، متعلقة بدستورية قانون أو لائحة، فذلك هو الاختصاص الطبيعي والأصيل للقضاء، وليس اختصاصاً بالفتيا، أو بتفسير نص دستوري مجرد من أي منازعة قائمة، وأن الفقرة الثانية من المادة 173 من الدستور إنما تؤكد المعنى ذاته بالنص على كفالة حق الحكومة وذوي الشأن في الطعن لدى تلك الجهة في دستورية القوانين واللوائح فهو كفالة حق التقاضي. أما ما استندت إليه المحكمة في ما جاء في المذكرة التفسيرية للدستور من استطراد إلى أن «رجال القضاء العالي في الدولة، وهم الأصل في القيام على وضع التفسير القضائي الصحيح لأحكام القوانين، وفي مقدمتها الدستور، قانون القوانين»، فهو لا يعدو أن يكون مقرِراً لحقيقة قانونية بديهية، وهو ولاية المحاكم بالتفسير القضائي، وهو مصطلح معروف نطاقه ومدلوله في ما يستخلصه الحكم من تفسير للنصوص القانونية اللازمة للفصل في الدعوى المطروحة أمام المحكمة. وأن توحيد التفسير القضائي لأحكام القوانين لا يكون مستقلا عن منازعة قائمة، بل من خلال ما يطرح من منازعات على جهات القضاء العالي، وهو مقصد المشرع من إنشاء محكمة التمييز، باعتبار أنها محكمة قانون، وما تصدره من أحكام في الطعون المطروحه أمامها يصبح مبدأً، تتبعه المحاكم في المنازعات التي تطرح عليها مستقبلاً وتلتزم باتباعه ولو أدبياً.ومن المقرر في الرقابة على دستورية القوانين في الولايات المتحدة الأميركية، التي كانت أسبق الدول إلى تقرير هذه الرقابة، أن المحكمة الاتحادية العليا المنوط بها هذه الرقابة لاتقدم آراءً استشارية advisory opinions ، وأنه عند وضع الدستور الاتحادي، اقترح بعض واضعي هذا الدستور في مؤتمر فيلادلفيا سنة 1787 أن يخول كل من مجلسي الكونغرس الحق في حالة الشك في دستورية قانون معين في أن يبطل تفسيراً من المحكمة العليا، وكان الرد على هذا الاقتراح أن مثل هذه السلطة مخولة على أي حال للقضاء في الخصومات المعروضة عليه وفقا للقانون cases properly before them، وأن الاستجابة لمثل هذا الاقتراح ستعطي المحكمة العليا سلطة مزدوجة في المراجعة، بل إن إعماله يخل بحيدة قضاء المحكمة بدعوتهم إلى إبداء آرائهم في تشريعات معينة قبل أن تعرض عليهم منازعات قضائية في شأنها بالطريق القانوني. والواقع أن استناد المحكمة إلى نص المادة 173 من الدستور أو إلى المذكرة التفسيرية له، قد كلفها الكثير من عناء الاجتهاد في التحليل والتأويل والتدليل، وإلى مقال قادم نستكمل فيه موضوع مدى الالتزام بتفسيرات المحكمة وبتداعيات الالتجاء إلى المحكمة الدستورية في الممارسة الديموقراطية.