Ad

نشاهد في رواية «ألف شمس مشرقة» بألم حاد الويلات المتصلة المحيطة بالمرأة الأفغانية عموما، منذ تكونها جنيناً لم يفز بمن يجهضه، إلى حين وصولها إلى نطع السيّاف أو بندقية القنّاص. فهي في معظم الأحوال أداة الاستمتاع، أو مشجب السخط أو برميل قمامة الشرف الذي يلقي فيه الرجل، على الدوام، تبعات ذنوبه الشخصية.

منذ ما يزيد على خمسة أعوام، كانت رواية «قائد الطيارة الورقية» للكاتب الأفغاني المقيم في أميركا «خالد حسيني»، قد هبّت، فور نشرها، مثل عاصفة مباغته، فاستولت على مشاعر القرّاء في شتى بقاع الأرض، وأصبحت في غضون أسابيع من صدورها، الرواية الأكثر مبيعاً في العالم كلّه، حيث أمكن لها، في وقت قياسي، أن تترجم إلى مختلف اللغات الحيّة، وأن تنشر في أربعة وثلاثين بلداً.

كانت تلك الرواية قد وصفت، بالدم الفائر، مآسي الأبرياء عموماً والأطفال خصوصا في «أفغانستان»... البلد الوارث لأجمل الحضارات، والمبتلى على الدوام بسطوة غزاة الخارج، واستبداد سفلة الداخل.

ولأنها رواية أحاطت بأدق تفاصيل الحياة تحت وطأة مختلف الأنظمة الجائرة، فقد وقع في ظن الكثيرين أنه لم يعد لدى «خالد الحسيني» أي جديد لرواية أخرى، بعد أن رفع فيها عن صدره أطول وأثقل الزفرات.

لكن الرجل كذّب الظنون كلها، حين فاجأنا، في أواخر العام الماضي، بصدور روايته الثانية «ألف شمس مشرقة» التي أكد فيها أنه يمتح من بئر دافقة، وأن روايته الأولى لم تكن «بيضة الديك»، ذلك لأن بلداً مثل بلده الممتحن بأنواع البلايا، لايمكن أن يترك لكاتب موهوب مثله، فرصة وضع نقطه نهاية لجملة ختامية في سفر المحن المفتوح على جميع الاحتمالات.

الرواية الجديدة أضخم حجماً من سابقتها، بل تكاد تكون ضعفها حجماً، ولا مورد للمقارنة بين الاثنين من ناحية قوّة الموضوع وبراعة الفن، فكلتاهما صادرة من ذهن رجل ممتلئ تماماً بموضوعه، وموهوب جداً في مجال فنّه، وعليه فإن رواية «ألف شمس مشرقة» قد جاءت كسابقتها: مشرقة وأخاذة وبالغة الأثر.

لكن إذا كان لابد من وضع فارق حاد وسريع بين الروايتين، من حيث الموضوع، فإن من الممكن القول إن الأولى كانت رواية «الطفل الأفغاني»، بينما الثانية هي رواية «المرأة الأفغانية» فهذان الشاخصان المؤسسان والراعيان للحياة، هما الأكثر عرضة للتدمير أو الموت في أفغانستان، على مرد العهود.

ومثلما كان هناك طفلان يشكلان محور الرواية الأولى، فإن هناك امرأتين تشكلان محور الرواية الثانية: المرأة الأولى هي «مريم» بنت السفاح شبه الأميّة القادمة من العاصمة «كابول» من «هيرات» النائية، منبوذة من قبل أب خاطئ جبان، ومستقرة في كنف زوج نذل دنيء قاس يكبرها بعشرة أعوام، ويقف بسلطته العمياء في المنزل كمعادل موضوعي لسلطة طالبان أو لوردات الحرب في البلد كلّه.

أما المرأة الثانية فهي «ليلى» بنت العاصمة المتعلّمة والقادمة من بيت مدرّس يحترم المرأة ويؤمن بحقوقها الإنسانية العامة، لتستقر في بيت الرجل نفسه ضرة لمريم، حين يستغل ذلك النذل ظرف مقتل أهلها إثر انهيار منزلهم تحت وطأة القصف المتبادل بين أصناف المجاهدين «أكرمكم الله»... وإصابتها هي نفسها أصابة بالغة، فيحملها إلى بيته لتقوم مريم برعايتها حتى تشفى، ثم يجتهد بعد ذلك في تدبير حيلة خسيسة، ينبئها من خلالها بوفاة صديق طفولتها وحبيبها «طارق» محترقاً في السيارة التي نقلته وأهله، مؤقتا، إلى مدينة «بيشاور» الباكستانية، وعند هذه النقطة يخيّرها بين أن تتزوجه أو أن يرمي بها إلى الشارع، لتواجه القتل أو الاغتصاب أو كليهما، فتذعن لطلبه مضطرة، لأن حبيبها «طارق» كان قد زرع في أحشائها طفلاً قبل رحيله المفاجئ.

طفلة في الخامسة عشرة، تصبح، على الرغم منها، أمّاً لطفلة مثلها، وضرّة لامرأة في عمر أمها... في دائرة لهب موّاره يرعى تأججها لوردات الحرب وطالبان ومجاهدو الأعراب من الخارج، والزوج الدنيء من الداخل.

قليلة هي الفضاءات الخارجية المفتوحة في هذه الرواية، ذلك لأنها تغزل خيوطها حول أنوال النساء، ولأن النساء حبيسات القواقع، فإن الفضاءات على كثرتها، تبقى غالباً، مساحات ضيقة خانقة تحقق مطلب الرواية الأصلي في وصف حالة المرأة الأفغانية التي تحيا مختنقة بحبال القيم العائلية والقبلية العمياء من جهة، أو بحبال القيم الدينية الممسوخة والمشوهة من جهة أخرى، والتي لم تحظ بنافذة للتنفس أو الرؤية ويا للمفارقة، إلا في فترة حكم الشيوعيين الذين آمنوا بحقها في الحركة والتعلم والعمل، على الرغم من موقفها السلبي منهم وعدم إيمانها بالفكر الذي يحملونه!

على مدار ما يقرب من أربعمئة صفحة احتوت أربعة أجزاء وواحداً وخمسين فصلاً، نشاهد بألم حاد الويلات المتصلة المحيطة بالمرأة الأفغانية عموما، منذ تكونها جنينا لم يفز بمن يجهضه، إلى حين وصولها إلى نطع السيّاف أو بندقية القنّاص.

فالمرأة في معظم الأحوال هي أداة الاستمتاع، أو مشجب السخط أو برميل قمامة الشرف الذي يلقي فيه الرجل، على الدوام، تبعات ذنوبه الشخصية.

وكمثال على ذلك، نرى أن «مريم» بطلة الرواية، هي ثمرة نزوة والدها «جليل» الرجل الثري جداً والمتزوج من ثلاث نساء، والذي لم تردعه كفايته عن السطو على شرف امرأة بائسة لا حول لها من خادمات المنزل، وزرع بذرة العار فيها، ثم نفيها وطفلتها إلى كوخ موحش منفرد على مسافة بعيدة جداً من منزله المنيف في «هيرات»، صوناً لسمعته!

صحيح أنه كان يزور الطفلة في أوقات متباعدة ويلهو معها، لكنه كان يفعل ذلك باعتباره «كفارة» بسيطة عن ذنبه العظيم، كما تقول أمها البائسة. والدليل على خبث نفسه هو أنه عندما غامرت «مريم» الصغيرة بطرق باب منزله، بعد مسيرة طويلة ومضنية، أرسل الخادم ليخبرها بأنه غير موجود، وتركها تنام في برد العراء طول الليل، ليحملها سائقه صباحاً إلى كوخ أمها!

ومن جانب آخر فإن جدها لأمها «الخادمة الضحية» كان قد تبرأ من ابنته تحت وطأة الشعور بالعار، وغادر إلى إيران ولم يعد أبداً.

تقول أم مريم: «أبي كان جباناً... لأنه لم يملك الشجاعة لقتلي غسلاً للعار. إذن لكان قد أحسن إليّ، وإليك أيضاً يا مريم... و«جليل» كان جبانا أيضا، لأنه لم يعترف بمسؤوليته، ورمى التهمة عليّ وحدي، زاعماً أنني أغويته».

وهي في إحدى المرات، تقدم لمريم نصيحة تختزل فيها كل مآسي المرأة في كل زمان: «انظري إليّ. تعلّمي هذا الآن، وتعلّميه جيداً يا ابنتي: كما تؤشر إبرة البوصلة دائما إلى جهة الشمال، فإن إصبع الاتهام لدى الرجل يتوجه دائما نحو امرأة. تذكّري هذا يا مريم».

بقي القول إنني عند استعراضي لرواية «الطيارة الورقية» كنت قد أبديت خيبتي وألمي من كونها قد سافرت إلى جميع أنحاء الدنيا، لكنها لم تصل أبداً إلى «بلاد العرب أوطاني»... وكان لدي يقين بأن «سفينة الصحراء البرمائية» اللعينة التي صنعت طالبان وألهمت فكر طالبان وموّلت سلاح طالبان من المال الحرام الذي تسرقه من أفواه جياعها، هي التي بسطت ظاهرة طالبان الذهنية على اتساع سماوات وأرضين بلاد العرب، بحيث أدخلت الرعب إلى قلب كل من يحاول ترجمة أو عرض مثل هذه الأعمال الأدبية الرفيعة الصادقة التي تبدي لنا شخصية الأفغاني الحقيقي الراقي، وهو يمسح سخام العادات البدائية الذميمة المستوردة عن وجه مجتمعه المتحضر، ويسقط صدأ التشويه والتزوير المتراكم عن وجه دينه الجميل الرحيم.

رواية «الطيارة الورقية» أصبحت، الآن، فيلماً سينمائياً، وستتاح للعرب قراءتها بالصورة والصوت، على الرغم من أنف مخترعي طالبان. أما «ألف شمس مشرقة» فإنني أتمنى من كل قلبي أن أراها، في أقرب وقت، تشرق لدينا مترجمة على الورق، لكي يداخلنا الأمل من جديد في أننا قادرون على امتلاك الشجاعة الكافية لاستخلاص ديننا وأخلاقنا وحياتنا كلها من كهوف مخلفات العصر الحجري.

* شاعر عراقي- تنشر بالاتفاق مع جريدة «الراية» القطرية