Ad

لا أكاد أصدق ما أرى في كل مرة من تزايد القنوات العربية بشكل مرعب، وكأن تكلفة إنشاء قناة فضائية قد صار أرخص من تكلفة إنشاء بسطة في سوق الجمعة! مئات المحطات التي تسمت بكل ما هب ودب في الأرض وفي البحر وفي السماء، من بشر وحيوان وشجر وحجر، وأغلبها بلا محتوى على الإطلاق.

أعترف بأني لست من متابعي البث التلفزيوني المباشر إلا نادراً. وكم أوقعني هذا الأمر في مواقف طريفة عندما يسألني أحدهم مثلا عن حلقة من برنامج شهير بثت أخيراً ليفاجأ بأني لا أعرف البرنامج أصلاً اضافة الى الحلقة. والظاهر ان الناس تظن أن على الكاتب الصحافي، وحتى يستحق هذه المرتبة، أن يكون متابعاً للقنوات الإخبارية كلها وللبرامج الحوارية جميعها، وللصحف والمجلات كاملة، وملما بكل ما يُبث ويُكتب ويُنشر في كل الزوايا والأعمدة، بل وعلى الأسطح والأرضيات!

لكن هذا الظن يجانب الصواب كثيراً، أولاً لأن الكاتب الصحافي ليس وكالة أنباء حتى يكون ملماً ومطلعاً على الأخبار والأفكار من حوله، وحسبه انه شخص لديه فكرة جديدة وقدرة جيدة على الكتابة وفرصة متاحة للنشر، بل لقد تقلصت هذه الشروط في عصرنا الحالي بسبب تلوث صنعة الصحافة وتحولها إلى تجارة أو أداة سياسية بحتة، وصار كافياً للشخص لكي يصبح كاتباً صحافياً في صحيفة سيارة أن يعطيه رئيس تحريرها فرصة للنشر لينهال على الناس ضرباً بمقالات لا أتردد في القول إنها من علامات الساعة! ثانياً، وهو الأمر المرتبط بما سبق، أن الكتابة الصحافية لم تعد مرتبة ذات شأن خاص، بل لم تعد بمرتبة على الإطلاق في أيامنا هذه، فالصحف أضحت تكتظ بعشرات الكتاب من كل المستويات الفكرية، بل إن من هؤلاء من لا يستطيع حتى الكتابة بلغة عربية سليمة أو شبه سليمة، ويستخدم العامية من دون حياء أو خجل لا منه ولا من الصحيفة التي تنشر له!

سأتوقف هنا عن الحديث في هذه الجزئية الفرعية، وأعود لأساس المقال قبل أن تنتهي السطور المسموح لي بنشرها اليوم. أقول إن أردت أن أشاهد برنامجاً تلفزيونياً، ففي الغالب سيكون مسجلاً استعرته من «أولاد الحلال» بعد بثه بفترة. والفترة الوحيدة التي أجلس فيها أمام البث الحي هي تلك الدقائق المعدودة من بعد الإفطار في رمضان من عام إلى عام، وفيها يحلو لي أن أمارس لعبة تقليب المحطات بشكل سريع، وكأني أحاول أن ألم بما فاتني طوال العام من محطات جديدة!

ولا أكاد أصدق ما أرى في كل مرة من تزايد القنوات العربية بشكل مرعب، وكأن تكلفة إنشاء قناة فضائية قد صار أرخص من تكلفة إنشاء بسطة في سوق الجمعة! مئات المحطات التي تسمت بكل ما هب ودب في الأرض وفي البحر وفي السماء، من بشر وحيوان وشجر وحجر، وأغلبها بلا محتوى على الإطلاق، اضافة إلى قيمة ومعنى ما تبثه أصلاً. قنوات ليست سوى أشرطة متحركة لرسائل الهواتف النقالة بكلمات فارغة أو سفيهة أو بذيئة!

أمام هذا الذي أراه، أكاد أقول إن عدد القنوات الناطقة بالعربية قد صارت اليوم تفوق وبعشرات المرات كل ما سواها من القنوات الأخرى، وبلا قيمة ولا معنى!

أنا ضد الرقابة المسبقة على الفكر والنشر والبث، ولي تحفظات كبيرة على الرقابة اللاحقة ما لم يكن واضحاً ما المقصود بها، لكنني ومع هذا الانفلات الفضائي المرعب أعتقد أن من الواجب أن يعمل كل واحد منا وعلى مستواه الشخصي شيئاً لمنع هذه المحطات من إفساد ثقافة وتفكير وعقول أهله!