يتحدث الكاتب بالتفصيل عن «مبادرة أميركية» كلف بنقلها إلى صدام شخصياً بعد خمسة أيام من غزو الكويت. «كنت قد تعرفت في منتصف الثمانينيات في باريس، من خلال أحد الأصدقاء، الى شخص أميركي يدعى روبرت بير، المعروف لدى أصدقائه باسم بوب. وقتها كان بوب يعمل مسؤولا لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) في بيروت.
ولأني لبناني ومعروف في الوسطين الصحفي والسياسي، وجد بوب أنني أمثل «طريدة دسمة». لكن الذي حصل أن الطريدة تحولت الى «صديق»، مما يخالف النظرية القائلة بأن الجواسيس ليس لهم أصدقاء.
في أواخر الثمانينيات انتقل بوب الى مكتب الـ«CIA» في باريس. وفي أوائل 1990 انتقلت أنا من «منفاي» الانكليزي الى «منفاي» الفرنسي واستمرت الاتصالات بيننا بعد أن عرف كل منا الآخر؛ ماذا يفعل، وما مهماته، ومدى عمق علاقاته بالطرف الذي يمثله أو يعرفه، وما الحدود التي يجب أن يقف كل منهما عندها.
هذه العلاقة ما زالت مستمرة الى اليوم، على الرغم من خروج بوب من العمل الاستخباراتي عن طريق تقديم الاستقالة في أواخر التسعينيات ودخوله مجال كتابة قصص الجاسوسية التي تحولت الى فيلم، بالاضافة الى كتابين عن القليل من تجاربه المثيرة في حقل الجاسوسية.
بعد خمسة أيام من غزو العراق للكويت، استيقظت على رنين متواصل لـلـ«أنترفون» في شقتي الباريسية الواقعة في الدائرة السادسة عشر. كانت الساعة تشير الى الثامنة صباحاً وكنت قد قضيت الليل وجزءاً من ساعات الفجر الأولى في تتبع أخبار الغزو العراقي عبر مختلف الأجهزة الإعلامية. ونتيجة لاصرار الرنين على ايقاظي، خرجت من سريري نصف نائم. وجاءني الصوت: علي، أنا بوب. أرجوك افتح الباب الخارجي. وبحركة اوتوماتيكية فعلت ما طلب مني من دون أن أتبين في ذهني المتعب شخصية زائر الفجر هذا. ولأن الشقة تقع في الطابق الثامن، فقد منحت قليلاً من الوقت لأحاول من دون جدوى، معرفة شخصية الزائر. فالنعاس سيد الأنام، فهو يشل الفكر ويقضي مؤقتاً على الذاكرة.
زائر الفجر كان بوب الذي اقتحم الباب الداخلي رأساً الى الصالون. لكن حالة النصف نائم لم تمنعني من القول: أهلاً... هل نشرب القهوة أولاً ثم نتكلم، أو نتكلم ثم نشرب القهوة؟
قال: لنبدأ الكلام الآن قبل تحضير القهوة، ثم نتابع ونحن نشربها. ليس عندي وقت طويل. نصف ساعة أعود بعدها الى السفارة.
دخل بوب رأساً في الموضوع قبل أن يعطيني فرصة الجلوس: هل تعرف أن صديقك صدام ارتكب الحماقة الكبرى، وهو الآن يسيطر عسكرياً بشكل كامل على الكويت. إن واشنطن غاضبة جداً وبدأت تستعد للتصرف في ضوء غضبها هذا، وستذهب الى الحرب لطرد «ابن الحرام». لكن هناك خطة لتلافي وقوع حرب مدمرة يمكن أن تشمل المنطقة برمتها. ونريدك أن تؤدي دوراً في هذه الخطة.
-قلت: دعني أولاً أضع قليلاً من الماء البارد على وجهي حتى استيقظ بشكل كامل.
الحقيقة أنني لم أكن بحاجة الى الماء البارد. كلمات بوب المتسارعة كمدفع رشاش اعادتني الى الوعي. لكن كنت بحاجة الى هنيهات من التفكير حتى أستوعب ما قاله زائري وما يمكن أن يقوله. بعد أن رجعت الى الصالون قلت: خطة؟ عن أي خطة تتحدث؟
-هل أنت مستعد للذهاب إلى بغداد خلال الـ24 ساعة المقبلة حاملاً رسالة تقدمها شخصياً إلى صدام؟
-رسالة ممَّن؟
- من واشنطن.
-واشنطن مدينة كبيرة. أي جزء منها؟
-تجاهل بوب لهجة السخرية في كلامي، وأصدر صوتاً ينم عن فقدان الصبر، وقال: قل لي الآن. هل أنت مستعد أم لا؟
-لم أفكر طويلاً، فالموضوع أكثر من كونه جاداً فقلت: أنا مستعد.
ـ عظيم. الرسالة تتضمن مبادرة من قبل واشنطن وهي كالآتي: يعلن صدام خلال خمسة أيام ابتداء من اليوم نيته في سحب جيشه من كل أراضي الكويت، ثم يتبع وعده مباشرة بالتنفيذ العملي إذ يباشر، وبشكل تدريجي، عملية سحب جيشه. من جانبنا نقدم له ضمانتين: نضغط على الكويت لاحتساب ثمن كميات النفط التي يقول صدام إنها سحبت من الجزء التابع للعراق في حقل الرميلة المشترك. ونتعهد أيضاً بأن تدفع الكويت ثمن هذا النفط. والضمانة الثانية هي تعهدنا بأن نضغط على الكويت للقبول بتأجير العراق جزيرة بوبيان عشرين سنة. صدام يريد هذه الجزيرة مدخلا له على الخليج. بالاضافة الى هذا، فإننا نتعهد بتحويل علاقتنا معه التي مورست خلال حربه مع ايران الى علاقات استراتيجية ثابتة وقوية تخدم مصالح بلدينا. هناك شرط أساسي عليك -وليس على صدام- هو أن تتعهد امامي الآن، قبل انتهاء النصف ساعة هذه، أنك ستسلم هذه الرسالة الى صدام شخصياً، وليس الى أي شخص آخر. هل تستطيع أن تقوم بذلك؟ هل تستطيع أن تقابله بالسرعة المطلوبة؟
- في الأيام العادية استطيع أن اقابله بالسرعة المطلوبة. لكن في ظل الأزمة الحالية والحرب مشتعلة لست في وضع يسمح لي بأن أعدك بذلك. لكن ما استطيع أن أعدك به هو أنني سأفعل كل جهدي لمقابلته شخصياً وتسليمه الرسالة. إذا لم استطع فإنني أعدك بأن الرسالة ستكون بين يديه في أسرع وقت ممكن.
- ظهرت على وجه بوب علامات خيبة الأمل، وقال: إذا لم تتمكن من رؤيته، لمن من القياديين العراقيين ستسلم الرسالة ليسملها بدوره الى صدام؟
سؤال مشروع لكنه يمكن أن يكون ملغوماً. ما أدراني أن بوب يستخدم هذه الوسيلة ليعرف اسماء من لي علاقة حميمة بهم في الدائرة الضيقة لصدام. صحيح أنني أنظر الى بوب كصديق ذكي، لطيف، طيب المعشر، لكن لا يجب أن أنسى انه استخباراتي من الدرجة الأولى وأن الطبع يتغلب دائماً على التطبع. وعليَّ أن أكون حذراً في الجواب، فأجبت: لا تقلق الرسالة ستصل الى صدام عبري أو عبر شخص آخر. المهم أنها ستصل وهذا ما تريده واشنطن. أليس كذلك؟
والآن جاء دوري في طرح الأسئلة: أريدك أن تكون أكثر تحديداً. أنا بحاجة الى أسماء، واسمك وحده لا يكفي، وكذلك تفاصيل، وأقول لك منذ الآن أنني سأعطيهم في بغداد كل ذلك لزيادة مصداقية الرسالة.
سارع بوب الى الاعتراف بالواقع، وقال: أنت على حق المبادرة كما ذكرتها لك حرفياً جاءت من مجلس الأمن القومي. ومادام بوش هو رئيس هذا المجلس فلا يمكنهم أن يطلبوا شخصية أعلى. مجلس الأمن كلف «لانجلي» (المركز الرئيسي للمخابرات المركزية الأميركية) بإيجاد الرسول المؤهل لايصال العرض، «لانجلي» اختارتني أنا، وأنا اخترتك. إذا وافق صدام فعليك أن تأتي إليّ مباشرة لأن فريقاً خاصاً تم تأليفه للعمل على تفعيل المبادرة. اذا اراد صدام أن يتأكد من صدقيتها، ما عليه الا أن يطلب من جماعته الاتصال بمسؤول الـ «CIA» في بغداد، وهم يعرفونه، وهو مخول، في حال الاتصال به وسماعه اسمي واسمك أن يؤكد صدقية المبادرة. هذا كل شيء.
نظر بوب الى ساعته، ورشف ما تبقى في فنجانه من قهوة تركية يحبها ثم وقف استعدادا للرحيل وقال: علي، هل نسيت عاداتك الجيدة؟ لم تقدم لي سيكاراً كوبيا كما كنت تفعل. هل اذا يعني أنك لم تعد تحبني!
سارعت لإحضار السيكار ولحقت به الى الباب الخارجي، وقبل أن يختفي داخل المصعد قال: متى ستسافر الى بغداد؟
-ربما غداً.
ـ ولماذا الغد لا اليوم. ولماذا لا تسافر في هذه اللحظة بالذات؟ ان حرباً توشك أن تندلع وأمامك فرصة ذهبية تخبر فيها احفادك كيف استطعت ان توقف هذه الحرب!
اتفقنا على اتصال هاتفي لأخبره بموعد رحلتي الى بغداد. ولم ينس بوب خبرته الاستخباراتية في تلك اللحظة عندما، حذرني بقوله: عندما تتصل بي هاتفياً، اذكر كلمة غد أو بعد غد لا أكثر. أن الفرنسيين يراقبون هاتفك وأيضاً هاتفي.
حاولت الاتصال هاتفياً بمكتب صدام على رقم خاص كان صدام يرد عليه شخصياً في الأيام العادية. وعندما لم أفلح، جربت رقما آخر لسكرتيره الشخصي. النتيجة سلبية.
يبدو أن الجميع قد ذهبوا الى الكويت! ثم اتصلت بمنزل طارق عزيز وكم كنت سعيداً عندما سمعت صوت زوجته أم زياد.
إذاً، الغزو لم يؤثر على الهاتف. قالت زوجة طارق إنها لم تره منذ ثلاثة أيام واقترحت أن أتصل على رقمه الخاص في مكتبه. نجحت المحاولة وتحدثت الى سكرتيره الخاص الدكتور سامي وأبلغته أنني أحمل رسالة غاية في الأهمية تتعلق بالغزو وأنني سأصل الى بغداد خلال الـ 48 ساعة المقبلة وأريد موعداً فورياً. طلب السكرتير منحه فترة ساعتين لاعطائي الجواب الذي كان ايجابياً، وقال إن الاستاذ سيقابلني فور وصولي. وبعد أن حجزت مقعدا لي في الطائرة اتصل ببوب عبر تلفون في الشارع، وقلت له: «بعد غد».
في بغداد، كان ترحيب عزيز حارا. وبعد أن قدم لي سيكاراً كالعادة قال لي: خير إن شاء الله.
شرحت لعزيز ما لديّ بالتفصيل، وحرصت على ألا أذكر اسم بوب الحقيقي. وكان عزيز يسجل على ورقة أمامه كل الكلام. قاطعني مرة واحدة عندما سأل: كيف تهجي اسم بوب؟
في النهاية، قال عزيز: من المستحيل مقابلة الرئيس اليوم أو غداً أو بعد غد، حتى أنا وعدد من الرفاق لم نتمكن من ذلك. إنه خارج بغداد مع القيادة العسكرية على الحدود. لكن لا تقلق سأنقل الرسالة اليه». وطلب مني أن أعيد قراءة بنود الرسالة حتى لا يكون هناك أي خطأ في التعبير. وقال لي في نهاية المقابلة إن هذا الموضوع من اختصاص جهاز المخابرات. وسأل: هل اتصلت بأصدقائك في الجهاز.
ـ لا. إنك أول من يسمع بالموضوع.
ـ هل ستبقى في بغداد؟
ـ بالطبع. لن أغادر قبل أن أنهي مهمتي.
- زين، ما هو رقم غرفتك في فندق الرشيد؟
قضيت في الفندق الأيام الثلاثة التي تلت مقابلة عزيز. بقيت في غرفتي طوال الوقت بانتظار رنين الهاتف الذي لم يأت.
كنت سجين الرشيد وسجين وساوسه في الوقت ذاته. الوساوس تجعل من الدقيقة الواحدة دهراً. في اليوم الرابع رن جرس الهاتف في الساعة السابعة والنصف صباحاً. سكرتير عزيز كان على الخط: الأستاذ سيقابلك في الثامنة والنصف كن جاهزاً في باحة الفندق في الثامنة. سنرسل من يأخذك الى مكان اللقاء.
لكثرة زياراتي بغداد ومكاتب كبار المسؤولين، خصوصا مكتب عزيز الذي يبعد عن فندق الرشيد حوالي ثلاث دقائق بالسيارة، والموجود مقابل جسر الجمهورية في مبنى وزارة التصميم سابقاً، فإنني على معرفة بالأصول التي تغيرت بشكل دراماتيكي هذه المرة.
جاءني مرافق يرتدي ثياباً عسكرية برتبة ضابط لم أره من قبل، مع أنني أعرف مرافقي وسائقي سيارات طارق عزيز. السيارة التي نقلتني لم تكن من سيارات عزيز، والاتجاه الذي سارت به لا يؤدي الى مكتب عزيز.
حاولت أن أتحدث مع المرافق المجهول لأعرف الى أين نحن ذاهبون، لكن المرافق كان يجيب على سؤالي هذا وعلى غيره من الأسئلة بابتسامة من دون أن ينطق بكلمة.
ودارت بي السيارة من شارع الى آخر حوالي نصف ساعة، مما زاد قناعتي بأنني في طريقي الى حيث يوجد صدام، في واحد من الأمكنة السرية الآمنة التي يستخدمها في لقاءاته الخاصة خلال الأزمات. وأيقنت اني كنت مخطئاً عندما وقفت السيارة أمام فيللا صغيرة تقع في مواجهة المكتب الرئيسي لجهاز المخابرات. الضابط نطق بعد ان سكت دهراً وابتسامته على وجهه وهو يفتح باب السيارة، «اعذرني. كان باستطاعتي ان نصل من الفندق الى هنا في أربع دقائق، لكن الموعد المحدد هو الثامنة والنصف، وأحببت ان نقوم بجولة مختصرة في بعض شوارع المنصور».
في صالون الفيللا التقىت بثلاثة وجوه أعرفها جيداً: فاروق حجازي أحد قدماء ضباط المخابرات، وكان يشغل منصب مدير العمليات الخارجية. وأعرفه منذ السبعينيات عندما كان يدير مكتب المخابرات في بيروت. ثم حاتم العزاوي، وهو بالاضافة الى قرابته العائلية من صدام، يشغل منصباً مهما في رئاسة الجمهورية. والوجه الثالث كان مألوفاً لي، ولم أكن أعرف سوى اسمه الاول «محمد».
رؤيتي هذه الوجوه الثلاثة المألوفة عندي منحني نوعاً من الطمأنينة، وخصوصا حاتم العزاوي الذي اعتبرت وجوده بمنزلة مؤشر على ان صدام قد تلقى الرسالة. إذاً فإن مهمتي قد قاربت نهايتها (حاتم العزاوي اشترك مع صدام في محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم عام 1959 في شارع الرشيد).
السؤال الاول الذي طرحته على الثلاثة: هل ابو زياد (طارق) سيحضر الاجتماع؟ أجاب العزاوي: انه في طريقه الى هنا. وقبل الانتهاء من تناول الكوب الاول من الشاي أطل طارق عزيز حيث جلس الى يساري بالقرب من العزاوي.
بدأ العزاوي الكلام، فقال: لقد تلقيت تفاصيل الرسالة الاميركية التي حملتها، وكذلك فإن السيد الرئيس قد اطلع عليها ونحن هنا، مكلفون من قبل سيادة الرئيس بمناقشتها واستيضاح بعض الامور.