Ad

ما أخشاه أن يتصور المثقفون أن دورهم ينتهي عند الجلوس مع سيادة الرئيس والاستماع إليه، وأن هذا هو غاية المراد من رب العباد، فينصرفون من عنده مستريحي الضمير، مع أن كل واحد منهم يصرخ في الغرف المغلقة، ويهمس بأركان قصية على المقاهي باحتجاج على ما يجري، ورفض ظاهر له.

رسم معرض القاهرة الدولي للكتاب، الذي تنتظم فعالياته في هذه الآونة، جزءاً كبيراً من الخط البياني لعلاقة السلطة بالمثقفين في مصر، على مستوى الشكل والمضمون معاً، ليبين كيف تسير هذه العلاقة إلى الخلف دوماً، فيصغر المثقفون في عين السلطة، وتتضخم السلطة في قلوب المثقفين، فيزدادون خوفاً وانسحاباً وارتياباً، ورضا بالقليل، واكتفاء بمجرد الجلوس في مواجهة رئيس الجمهورية، وسماع صوته، وهز الرؤوس لتعليقاته وإيماءاته وابتساماته.

ففي المعرض الذي تلا اعتلاء الرئيس حسني مبارك سدة الرئاسة مباشرة، كان المثقفون يتكلمون والرئيس ينصت إليهم بإمعان، ويصغي إلى ما يجودون به من رؤى وتصورات لوضع مصر ومستقبلها، وقال الناس أيامها، أخيراً جاد علينا الزمان بحاكم يسمع إلى عليّة الناس من أصحاب العقول المتفتحة والبصائر النيرة، ليقف على أفضل ما يمكن فعله من أجل بلده، خصوصاً أن الرئيس مبارك كان يقول في تلك الآونة إنه لن يحكم أكثر من فترة واحدة، وسيترك هذه «المسؤولية الثقيلة» لغيره.

واستمر هذه الوضع ثلاث دورات على ما أذكر لمعرض الكتاب، بعدها، بات على المثقفين أن يرفعوا أيديهم طلباً للكلام ويختار الرئيس من بينهم من يتحدث. وبالطبع، كان من يفوزون بالفرص دوماً هم من يراهم النظام أهلاً لثقته، أو بمعنى أدق، هم المسبحون بحمده، المدافعون عنه، المبررون له مسلكه، مهما كان فيه من خلل أو زلل.

في مرات لاحقة تغير الوضع إلى أن يقوم الراغبون في التحدث بإرسال أسمائهم إلى المنصة، ويختار الرئيس من بينهم، من يتحدث، بعد ذلك مباشرة، تضاءل الحديث لحساب طرح الأسئلة على الرئيس، فتحول المثقفون إلى مستمعين والرئيس إلى محاضر، ليصبح اللقاء كأنه بيان أو خطاب يلقيه رئيس الجمهورية أمام برلمان يكتسحه الحزب الذي يقوده، فتكون النتيجة تصفيقاً حاداً، وتهليلاً وهتافات، وشعارات وشعراً، ومدحاً وإطراء مستفيضاً.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل بات وزير الإعلام السابق صفوت الشريف هو من يختار طارحي الأسئلة، فيقدم للرئيس ما يحب أن يجيب عنه، ويمنع عنه ما قد يغضبه أو لا يتوافق مع رؤيته، وانزلق المنحنى إلى أن يقوم الوزير بتحديد من يتكلم، وبعد أن كان اللقاء يبث على الهواء مباشرة، بات التلفزيون يقدم تسجيلاً له، بعد «المونتاج»، وذلك منذ واقعة «الترمس» الشهيرة، أو بمعنى أدق قضية قانون الصحافة رقم 93 لسنة 1995، الذي رد الرئيس وقتها بشأنه على الأستاذ جلال عيسى وكيل نقابة الصحافيين، رحمه الله، بقوله «إحنا مش بنبيع ترمس»، حين طالبه عيسى، في مؤتمر للإعلاميين حضره أهل الفكر أيضا، بإلغاء هذا القانون المشبوه، الذي سن بليل، لتحويل الصحافة من «صاحبة الجلالة» إلى «الآنسة الضعيفة المهذبة».

وتراجع الوضع مرة أخرى، فبعد أن كان الرئيس يذهب إلى المثقفين في بيتهم وهو معرض الكتاب، ليمثل حضوره افتتاحاً رسمياً لهذه التظاهرة الثقافية التي ينتظرها أهل الفكر والعلم كل حول، بات المثقفون يذهبون إلى بيت الرئيس، وقبل المعرض بأيام.

وفي المرات الأخيرة، كان صفوت الشريف يحدد أصلاً من يحضر اللقاء الفكري بين الرئيس والمثقفين، وكان الرجل أميناً في اختيار عيّنة، غير عشوائية، لا تعبر أبداً عن مثقفي مصر، فيجلس «الرجال» في القاعة الوثيرة، مشدوهين، وكأن على رؤوسهم الطير، حتى يطل عليهم الرئيس، فيلقي عليهم محاضرة عصماء، عن أحوال البلاد والعباد، وما إن يلملم أوراقه استعداداً للمغادرة، حتى تضج القاعة بتصفيق حاد. وهكذا، تحول اللقاء من فرصة سنوية مهمة ليقف الرئيس على رأي النخبة المثقفة في مجريات الأمور، إلى جلسة يطلع فيها الرئيس هؤلاء على أمور يستفهمون عنها، من قبيل: «هل رد عليكم صدام حين طلبتم منه قبيل الغزو أن ...» أو «هل تعتقدون أن الرئيس بوش يفكر في اجتياح سورية أو إيران ...؟»، ثم تتراجع الأسئلة والمطالب إلى رجاء من أحدهم للرئيس أن يأمر ببناء قنطرة تربط بين نجع وقرية عزلاء في أقاصي الصعيد الفقير المنسي.

كل ما أخشاه أن يعتقد الرئيس أن هؤلاء هم كل مثقفي مصر، أو أنهم يعبرون فعلاً عن مثقفي هذا البلد العظيم المعطاء الغني بناسه وتاريخه وعقول أبنائه، أو أنهم، حسب التعريف العلمي للمثقف، لايزالون مخلصين لهذا المصطلح ومعبرين عنه بكل معانيه ومبانيه، وما أخشاه أكثر أن يتصور المثقفون أن دورهم ينتهي عند الجلوس مع سيادة الرئيس والاستماع إليه، وأن هذا هو غاية المراد من رب العباد، فينصرفون من عنده مستريحي الضمير، مع أن كل واحد منهم يصرخ في الغرف المغلقة، ويهمس بأركان قصية على المقاهي المحتشدة بسحب الدخان وروائح المشروبات الساخنة والباردة، باحتجاج على ما يجري، ورفض ظاهر له لا يحتاج إلى لبس أو تورية، فإذا جلسوا إلى الرئيس نسوا كل هذا، واكتفوا بترويض الوقت، حتى تمر الساعتان، اللتان يستغرقهما اللقاء، لينصرفوا إلى ممارسة الاحتجاجات الداخلية، التي لا تنتج لهم سوى مزيد من أمراض ضغط الدم والسكر، ولا تنتج لمصر سوى مزيد من الحسرات على الفرص الضائعة، ولا تبقي للبسطاء من العوام اللاهثين وراء تحصيل أرزاقهم الضيقة، سوى مزيد من الكفر بالمثقفين ودورهم المشبوه.

* كاتب وباحث مصري