حديقة الإنسان: نطاق الشفق

نشر في 14-03-2008
آخر تحديث 14-03-2008 | 00:00
 أحمد مطر

«نطاق الشفق» هي سلسلة من القصص الغرائبية للأميركي رود سيرلنغ تقع أحداثها في ذلك النطاق الغامض المبهم الذي تتداخل فيه الأزمنة والأمكنة على نحو غير معقول، وكأنه نطاق سادس يضاف إلى أقاليم الأرض المعروفة، شأنه شأن الحاسة السادسة بالنسبة لحواس الإنسان الخمس.

في أوائل ستينيات القرن الماضي ابتكر الأميركي (رود سيرلنغ) سلسلة من القصص الغرائبية، قدمها التلفزيون على شكل حلقات تمثيلية، كان (سيرلنغ) يشارك في التعليق عليها شخصياً، من خلال ظهوره المفاجئ والسريع في واحد من مشاهد كل حلقة.

وقد استقطبت تلك الحلقات التي تجاوز المئة والخمسين عدّاً، جمهوراًً عريضاً سواء من الأميركيين أو غيرهم من سكان المعمورة، وذلك لأنها كانت تقدم بحرفية عالية، قصصاً جميلة وقصيرة وفائقة الغرابة، يؤديها عدد كبير من نجوم هوليوود، وقد اشتهرت تلك الحلقات بعنوان (The Twilight Zone) أو ما يمكن ترجمته إلى «نطاق الشفق» وللدلالة المتضمنة في العنوان هي أن أحداث القصص تقع في ذلك النطاق الغامض المبهم الذي تتداخل فيه الأزمنة والأمكنة على نحو غير معقول، وكأنه نطاق سادس يضاف إلى أقاليم الأرض المعروفة، شأنه شأن الحاسة السادسة بالنسبة لحواس الإنسان الخمس.

إن غرائبية (The Twilight Zone) غير مجانية، فهي ليست مؤلفة لإبهار المتفرجين فقط، ولكنها تترك وراءها سلسلة من التساؤلات حول حقيقة ومقاصد الوجود الإنساني، وحول موقف الإنسان في كوكب الأرض من هذا الكون الفسيح الغامض، وتترك في نهاية كل منها مغزى حياً وعميقاً، يتمثله المرء ببساطة في مجرى حياته البسيطة، من دون حاجة منه إلى اللهاث في صحارى الفلسفة الجافة.

تبدو قصص السلسلة سهلة المأخذ، أليفة وممتعة، لكنها في أُلفتها تقود المتفرج المطمئن خطوة خطوة، حتى تدخله بوابة الغرابة والحيرة، وهي في ذلك تشبه -على وجه ما- لوحات سلفادور دالي، فكل جزء من تلك اللوحات يبدو طبيعياً ومألوفاً، لكنه يتحول إلى غرائبي عند اتصاله بالأجزاء التي تبدو، هي أيضا، طبيعية ومعقولة إذا فصلت عن اللوحة الكلية!

وهذه القصص تذكر أيضاً -مع اختلافها الواضح في التوجه والبناء- بقصص الفرنسي (هنري تروايا) الذي يأخذ القارئ إلى عالم قصته بسهولة ويسر، فيدخله، على سبيل المثال، إلى مدينة ما، حيث الناس هم الناس الذين يعرفهم، وحيث الشوارع هي نفسها التي يألفها، والقضايا الحياتية هي ذاتها التي يعيشها، لكنه في نهاية المطاف، ودون سابق إنذار، يكتشف في السطر الأخير مثلا، أن أرجل جميع الناس هي حوافر ماعز!

في واحدة من حلقات هذه السلسلة يضعنا (سيرلنغ) أمام محنة رجل عجوز يحب القراءة جدا، لكن كل من حوله يمنعه من ممارسة هذا الحب. ففي البيت تحرص زوجته المتسلطة على إخفاء أي كتاب أو صحيفة، وتنقّب عن أي كتاب يخفيه لكي تلطخ صفحاته بالحبر... وفي عمله كمحاسب في أحد المصارف، يهدده رئيسه بالطرد كلما رأى في يده كتاباً أو مجلة. ولذلك فهو يحاول دائما أن يضع كتاباً صغيراً مفتوحا فوق ركبتيه، ليسترق النظر إليه، من وراء نظارته السميكة، كلما خلا من خدمة زبون... الأمر الذي يكتشفه رئيسه فينذره، لآخر مرة، بالطرد.

وفي بليته المركبة هذه، يغتنم الرجل فرصة الغداء، فيحمل جريدته ويختبئ في خزانة المصرف الكبرى المدرعة، مستغنياً عن الأكل بالقراءة. وفي تلك الجريدة يقرأ خبرا عن احتمال هجوم نووي... وبعد ذلك بلحظات يشعر بهزة عنيفة ترتج لها الخزانة الثقيلة المدرعة.

وعند انتهاء فرصة الغداء، يخرج صاحبنا من الخزانة، فيرى أن كل ما حوله خراب في خراب. ويأخذ طريقه بين الأنقاض، ليكتشف، مذعوراً، أن المدينة كلها ركام مبان، وأنها خالية من البشر، فيسعى كالغريب التائه بين حطام المتاجر التي تناثرت فيها كميات هائلة من علب الطعام المحفوظ فيطمئن إلى أنه بمنأى عن الجوع مدة طويلة، لكن اطمئنانه هذا لا يعود شيئاً مذكوراً إزاء بهجته برؤية أبواب الجنة مفتوحة أمامه... ذلك لأنه يجد نفسه وجهاً لوجه أمام ذخائر المكتبات الملقاة أكداساً من الكتب التي طالما تمنى قراءتها!

يجلس العجوز بين الكتب متصفحاً بعضها ومستعرضاً عناوينها على مهل. ولم العجلة؟ جميع الكتب طوع يده، وكل الوقت ملكه، ولا أحد هناك لمنعه من القراءة يمد الرجل أصابعه لالتقاط نظارته، لكنها تسقط فوق ركام الكونكريت فتتكسر! عندئد يحتقن وجه العجوز ببؤس الدنيا كله، ويحدق في الفراغ بعينين زائغتين، ولا نسمع منه سوى عبارة واحدة، يطلقها بزفرة كأنها آخر أنفاسه: «هذا ليس عدلا»!

القصة طريفة وممتعة ومؤلمة في الوقت ذاته، لكن أعظم ما فيها هو المغزى الذي تنطوي عليه. دعك من الأثر الموجع الذي تتركه في نفس القارئ المدمن، فليس جميع الناس قرّاءً شرهين. لكن المغزى هنا يمكن أن ينطلق على مختلف الموجات: سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، حيث ينشطر إلى عدد غير محدود من التساؤلات، مثل: ما معنى أن يكون الإنسان حراً إذا كان شاهداً على فناء كل الناس؟ وما جدوى امتلاك المرء للطعام بعد تهتك معدته وسقوط أسنانه؟ وأي فائدة ترجى من حصول المريض على دوائه في ساعة موته؟!

لنستعرض، على عجالة، مثلا آخر: قصة امرأة دخلت المستشفى لإجراء جراحة تجميل لوجهها، ولكن الطبيب الجراح وطاقمه، وهم كلهم يعملون في مكان شبه معتم، يدركون أن العملية لم تنجح، ولذلك فإن الطبيب يمضي وقتاً لتهيئة المرأة لمواجهة هذا الأمر، ويدربها على التعايش مع قبحها.

عند نزع الأربطة عن وجه المرأة يتأكد للطبيب فشل العملية، فيردد مع نفسه بمرارة أنه كان يعلم ذلك. لكننا بعد اكتمال نزع الأربطة نرى أن وجه المرأة باهر الجمال، فنعجب من رأي الطبيب، وندهش أكثر من صرخة الفزع التي تطلقها المرأة حين ترى صورتها في المرآة.

بعد هذه اللقطة... نرى، لأول مرة، وجه الطبيب ووجوه طاقمه، ووجوه العاملين والمرضى، ووجوه الناس في الشوارع، فإذا نحن أمام مسوخ يبدو وجه كل واحد منهم خلطة من ملامح القرد والخنزير والإنسان!

أهذه غرابة مجانية؟ ماذا لو وضعناها في سياق آخر؟ لنقل مثلا: ماذا لو وضعنا إنساناً حراً وسط قطعان من العبيد؟ أو عاقلاً وسط أمة من المجانين؟ أو مبصراً بين شعب من العميان؟

إن مغزى القصة يمكن أن يحمل على ألف محمل، وسيبدو ثميناً في كل الأحوال وتلك هي لمسة السحر التي تتصف بها أعمال (سيرلنغ)، وذلك هو سر نجاحه. والدليل على ذلك هو أن حلقات كثيرة جداً من هذه السلسلة قد أنتجت بالألوان، بعد وفاة سيرلينغ، لكنها بأجمعها لا تضارع عملاً واحداً من أعماله التي صورت بالأبيض والأسود... الأمر الذي يقنعنا بصواب المثل القائل بإعطاء الخبز لخبازه، وهذا مغزى كلي آخر تقرره أعمال (سيرلنغ) بالجملة.

* شاعر عراقي

back to top