هكذا تكلم غاندي
دائرة العنف مغلقة بإحكام، وكم غاندي معاصر نحتاج لمحاولة وقف دورانها. حسناً فعل أحفاده، إذ رفضوا «تحنيط» ذكراه في المتحف كما كان مقترحاً، ويا ليتهم نثروا بقايا رماده في بحار أقرب إلى شطآننا، لعل «لوثة» المحبة واللاعنف وقبول الآخر تصيب شيئاً من حاضرنا، وهي حتى الآن أحلام بعيدة مثلها مثل أحلام الحرية والعدالة.
في الثلاثين من يناير الفائت، نثرت بقايا رماد «صاحب النفس العظيمة» في بحر العرب، ستون عاماً مر على مقتله في 30-1-1948. لم يبق منه لنا إلا أسطورته نعيد ترديدها بلا مبالاة، كاستذكار درس صعب في التاريخ يسهل نسيانه، وفي أفضل الأحوال، من أجل الترحم على فكر يبدو أنه مضى مع صاحبه.مات المهاتما غاندي داعية اللاعنف قتلاً على يد العنف، ثم أعيد قتله على مر العقود الستة الماضية، قتل مراراً عبر حروب عبثية بين الدول أو بين مواطني الدولة الواحدة، عبر مقاومات وثورات أكلت أبناءها كما أعداءها. عبر احتلال هنا وطغيان هناك عمّم العنف حيناً وشرعنه أحياناً، ولمنطقتنا كان نصيب كبير من عملية إعادة القتل حتى النسيان.وفي الوقت الذي أصبحت فيه أجساد نسائنا وأطفالنا، بعد شبابنا وشيوخنا، تُلفّ بالأحزمة الناسفة وتُرمى في الأسواق لتبعثر ما استطاعت من حيوات، لا ندري ماذا نفعل بإيمان غاندي بأن التدمير ليس قانون البشر. الذي يقول «يعيش الإنسان بحرية فقط باستعداده للموت إذا ما لزم الأمر على أيدي أخيه وليس أبداً بقتله إياه». واليوم يموت المرء على أيدي محتل أرضه وشريكه في الأرض على السواء. ويقول أيضا «الحرية التي تأتي بوسائل عنيفة تعطي عنفاً».والموت يستدعي الموت، وعمليات قتل إرهابية وحصار وتجويع من قبل الاحتلال، تقتضي الرد بصاروخ أو اثنين، مما ينتهي بمزيد من عمليات القتل الإرهابية والحصار والتجويع. ونسمعه: «إن العين بالعين تجعل العالم كله أعمى». لكن من يردد صدى كلماته، فمرادفاته في قاموس العين بالعين، هي التصهين والاستسلام والجبن.ومرة أخرى نسمعه يقول: «إن اللاعنف والجبن لا يتماشيان معاً. بإمكاني تخيل شخص كامل التسليح هو في داخله جبان. إن حيازة الأسلحة تعني تواجد عنصر خوف، إذا لم يكن جبناً. ولكن اللاعنف الحقيقي مستحيل من دون امتلاك عدم الخوف غير الزائف». والزيف الحقيقي هو السكون المرتدي حُلّة استقرار وأمان هنا وهناك، والمنطوي على كم هائل من التعصب والتزمت والتطرّف، ديني أم طائفي أم عرقي... ومن الأشكال كافة. فقط أبقوا عود الثقاب بعيداً، لكن إلى متى؟! ومن يصغي: «أنا لا أريد أن يكون منزلي محاطاً بجدران من كل النواحي ولا أريد لنوافذي أن تكون مغلقة. أريد أن تكون ثقافات كل البلدان منتشرة حول منزلي بحرية، ولكني أرفض أن أنسف من قبل أي منها».وأي ثقافات قد تنتشر حول منزلي بحرية، وأنا سجين في بيتي؟! وأي ثقافات قد تنتشر من حولي إذا كان محظور عليّ تشكيل ثقافتي ومحكوم عليّ بوعي اللاوعي والتجهيل؟! وفي غير ذلك تجريم بإساءة لمشاعر الأمة، أو نيل من هيبة الدولة، أو تحقير لولي الأمر، أو خرق للنظام العام. وتكفير أو اعتقال، هدر دم أو تخوين. لا أحد يهتم أن يسمع منه عندما يقول: «إن حرمان شخص من حريته الطبيعية ومن أسباب الراحة العادية هو أسوأ من تجويع الجسد، إن ذلك هو تجويع للروح القاطنة في الجسد».دائرة العنف مغلقة بإحكام، وكم غاندي معاصر نحتاج لمحاولة وقف دورانها. حسناً فعل أحفاده، إذ رفضوا «تحنيط» ذكراه في المتحف كما كان مقترحاً، ويا ليتهم نثروا بقايا رماده في بحار أقرب إلى شطآننا، لعل «لوثة» المحبة واللاعنف وقبول الآخر تصيب شيئاً من حاضرنا، وهي حتى الآن أحلام بعيدة مثلها مثل أحلام الحرية والعدالة، ولاتزال الحركة العربية للاعنف في بداية دربها، ولايزال رواد هذا الحلم في خطوة الميل الأول، رغم أن بعضهم قضى سنين طويلة من عمره في صوغ هذا الحلم حقيقة.تحية إلى داعية اللاعنف الجليل الأستاذ جودت سعيد وجميع من يمشي في دربه. هؤلاء يبقون على نقطة الضوء، كي نستمر في الأمل، فقد قال صاحب النفس العظيمة «يجب ألا تفقدوا الأمل في الإنسانية، إن الإنسانية محيط، وإذا كانت بضع قطرات منه قذرة، فلا يصبح المحيط بأكمله قذرا».ستون عاما على مقتل المهاتما غاندي، هي ليست فقط مناسبة لاستعادة ذكراه، مسيرته وأقواله والتفكر فيها، هي مناسبة قبل كل شيء، للتفكر في ما نحن فيه، والعنف مورس ضدنا ومارسناه ضد بعضنا وأنفسنا، وكلنا ملوك تجاه بعضنا والآخر، وكلنا ضحايا لبعضنا والآخر! * كاتبة سورية