Ad

ليس لدينا «نظريات» أبداً، خلافاً لانطباع شائع يوهم بأنه ليس لدينا غيرها، ولدينا عقائد بائتة تعمي النظر، بدل أن تفتحه، ولدينا تجريب واقعي بأحط معاني الكلمة، منفصل عن أي مطلب للاتساق، ولدينا «المكْلمة» الخالدة التي تقول كلاماً بخساً يعوض عن الخلو من المعنى باستعراض حرارة الانتماء أو الإيمان.

هل صحيح أنه لا بديل عن مواجهة مسلحة بلا ضوابط مع العدو غير تنازل له بلا حساب؟ وهل تنحصر خيارات الفلسطينيين مثلا بين «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، وبين رضوخ تام لإسرائيل، ترى المنظمتان أنه يتجسد في سلطة أبي مازن؟ أما من بديل عن مواجهة، إن لم تكن انتحارية فإنها تفضي إلى عسكرة حياتنا العامة وتغذية التسلط السياسي والجمود الثقافي فيها؛ وعن استسلام مهين، يستحيل الإجماع بشأنه، وقد يفضي إلى تمزق مجتمعاتنا، وربما احترابها الداخلي؟

قد يهمل طرح السؤال بهذه الصورة تاريخ تكوّن هذا الثنائية المتنافرة المتكاملة، ويحجب أصول افتقارنا إلى خيار مختلف وغير متناقض ذاتيا. بدايةً، نعتقد أنه ثمة خيار متسق سنحاول رسم ملامحه، قبل محاولة تفسير سبب غيابه.

ثمة ثلاثة عناصر متكاملة أو أربعة، تشكل بمجموعها رؤية لخيار مختلف.

أولا: ينبغي تجنب المواجهة مع إسرائيل، أي تقليص فرص الاشتباك العسكري معها إلى أقصى حد، والمسارعة إلى إخماده إن نشب. هذا لأن لدى العدو «ميزة تفاضلية» كبرى في هذا الشأن، يستحسن مقاربتها تاريخيا من أجل فهمها. فإسرائيل مقربة من الكتلة الحضارية المهيمنة في عصرنا، أي الغرب، الذي أوصل صناعة القوة وعلومها وفنونها إلى مستوى لا يُضاهى. العرب، لأسباب من كل نوع، يحتلون موقعا متدنيا في سلم القوة عالميا. وهو ما يعني أنهم ينجرون إلى لعبة الأقوياء إن حصروا تفاعلهم مع الواقعة الإسرائيلية في مواجهات مسلحة، سيان أن تكون هذه حروب دول على نحو ما كانت الحال حتى عام 1973، أو حروب منظمات ما دون الدولة في العقدين الأخيرين (كانت حرب 1982 مزيجا منهما).

فحالنا ونحن نعسكر صراعنا مع إسرائيل، كحال من يواجه بطل العالم في الملاكمة في حلبة الملاكمة، بينما كان أنسب لو جرب مواجهته في ملاعب أخرى، نحوز فيها ميزة تفاضلية، أو يكون تفاضل ميزة العدو عن ميزتنا أقرب إلى الحد الأدنى.

ثانيا، ينبغي الامتناع عن تقديم تنازلات أساسية للعدو، هذا لأنه عدو، ولأن من غير المحتمل أن يغدو خصما، دع عنك أن يمسي صديقا، من دون تغيير عميق وجوهري في كيانه، وليس الامتناع عن تقديم تنازلات له بالأمر الصعب جدا، إن جمعنا بين نزع الصفة العسكرية عن العلاقة معه (فحيّدنا عنصر قوته)، وتحويل مركز السياسة والحياة العامة في بلداننا إلى الصراعات والمنافسات والتجاذبات السياسية والاجتماعية الداخلية (فطورنا عناصر قوتنا).

وعلى أي حال ليس المقصود من تجنب تقديم تنازلات للعدو الامتناع عن مسالمته إن تسنت فرصة معقولة لها، بل بالأحرى عدم فرض المسالمة هذه بالقوة على رافضيها والمتحفظين عليها في مجتمعاتنا، والحرص على ضبط أي تفاهمات أو اتفاقات محتملة مع العدو بإجماع وطني واسع، وإلا «بلاها». هذا معيار أساسي، وإنما بالحرص على تقييد أي تفاهمات محتملة مع العدو بتفاهم داخلي متين نقطع الطريق على احتمال نقل منطق الحرب والمواجهة إلى داخل بلداننا، لكي يكون الداخل هذا مقرا للسياسة والخصومات والمنافسات السياسية، لا للعداوات الحربية والمواجهات المسلحة.

ثالثا، يتعين منح الأولوية العليا للبناء الوطني، التعليم والاقتصاد والصحة والسكن والنقل والبنية التحتية والمعلومات، وبالخصوص حقوق السكان وحرياتهم وحرماتهم، أفضل ألف مرة مسالمة عدو قوي من إذلال مواطنين ضعفاء، أما التذرع بمواجهة العدو للدوس على حقوق السكان، فهو باب لجة الهزائم والخراب التي نمعن فيها، إن تطوير البلاد وتحسين عمل المؤسسات ورفع مستوى معيشة عموم السكان مقدمة على أي شيء آخر، وهو جوهر أي مفهوم عقلاني للمصلحة الوطنية. هو أيضا خطوة إضافية نحو نقل مركز السياسة إلى الداخل وتطوير ما يمكن أن نسميه نموذج «الدولة الداخلية» التي تبني سياستها واستقرارها حول مجتمعها وتفاعلاته، خلافا لنموذج «الدولة الخارجية» التي تخرس سكانها وتتفانى بحثا عن تعهد أدوار إقليمية باعتراف وتفويض من اللاعبين الإقليميين والدوليين الكبار.

رابعا، ترطيب الأجواء مع الدول العربية ودول الجوار الأخرى إلى أقصى حد، والامتناع عن التدخل في شؤونها الداخلية وتجنب سياسة المحاور والاستقطابات. وليس الرهان هنا علاقات عربية «أخوية» بالضرورة، بل بالأحرى عقلنة العلاقات القائمة وتطوير آليات مؤسسية لمعالجة النزاعات المحتملة، بما يفتح الباب لتحسينها من جهة، وبما يسهم في توجيه انتباه الدول أكثر نحو شؤونها الداخلية من جهة أخرى، ولعل هذا يقتضي تحييد العوامل الإيديولوجية في العلاقات بين الدول، سواء تلك التي تتعلق بطبيعة أنظمة الحكم، أو بانحيازاتها الدولية المحتملة، أو باختلاف الصورة المثلى المرغوبة للعلاقات العربية. أي أن ضبط العلاقات العربية لا يشتغل في إطار أي عقيدة قومية، سواء حددت لنفسها هدفا الوحدة أم التضامن، حسبه وقف التقاتل والاستنزاف، ورعاية حسن الجوار قدر الممكن، ونفترض أن من شأن عقلنة نظمنا السياسية بالتحول نحو الدولة الداخلية أن يسهم في عقلنة العلاقات العربية ذاتها، ونرجح أنه بقدر ما تنتظم العلاقات على أسس عقلانية متينة، فإن عناصر القرابة والأخوة ستكون قوة دفع إضافية نحو علاقات أوثق وأمتن.

* كاتب سوري