ديموقراطية الهند في الستين من عمرها

نشر في 15-08-2007 | 00:00
آخر تحديث 15-08-2007 | 00:00
 شاشي ثارور

منذ ثلاثة أعوام شهدت الهند، التي يشكل الهندوس 81% من سكانها، زعيمة سياسية كاثوليكية (سونيا غاندي) تمهد الطريق أمام زعيم من طائفة السيخ (مانموهان سينغ)، الذي تولى تنصيبه تحت القسم رئيس مسلم (عبد الكلام)، فالهند التي تحتفل اليوم بعيد تأسيسها الستيني، كان مجرد بقائها محل شكوك واسعة النطاق، غير أنها أصبحت اليوم تقدم دروساً رائعة في بناء ديموقراطية ناجحة رغم كل الصعاب.

عند منتصف الليل في الخامس عشر من أغسطس 1947 ولِدَت دولة جديدة تحتل أراضيها القسم الأعظم من شبه القارة التي مزقها انقسام دموي مخزٍ. حين خرجت الهند المستقلة إلى الوجود تراقصت المشاعل في أنحاء البلاد كافة، وعبرت القطارات المحملة بالجثث الحدود الجديدة مع باكستان، وهجر اللاجئون المنهكون كل شيء سعياً إلى حياة جديدة. والحقيقة انه لمن العسير أن نتخيل بداية أقل تشجيعاً من هذه لأمة وليدة.

رغم ذلك، وبعد ستة عقود من الزمان، تحوّلت الهند، التي خرجت من تحت أنقاض الحكم البريطاني، إلى أضخم نظام ديموقراطي في العالم وباتت تعد العُـدة بعد أعوام من النمو الاقتصادي السريع لاحتلال مكانها بين عمالقة القرن الواحد والعشرين. هذه الدولة التي كان مجرد بقائها محل شك وقت تأسيسها، أصبحت اليوم تقدم دروساً رائعة في بناء ديموقراطية ناجحة رغم كل الصعاب.

لا نجد في أي دولة في العالم غير الهند مثل هذه الوفرة غير العادية من الطوائف العرقية، واللغات، والأديان، والممارسات الثقافية، فضلاً عن التنوع الجغرافي، والمناخي، ومستويات التنمية الاقتصادية. في العام 1947 وجد زعماء الهند أنفسهم مسؤولين عن دولة تجاوز عدد قتلاها المليون، وبلغ عدد النازحين فيها ثلاثة عشر مليوناً، وخسرت مليارات الروبيات نتيجة للأضرار التي لحقت بالأملاك، ومازالت جراحها التي أحدثتها أعمال العنف الطائفي تنـزف. في ظل هذه الظروف، وفي مواجهة التحديات المتمثلة في إدارة دولة جديدة، وضم «الولايات الأميرية» إلى الاتحاد الهندي، وإعادة تنظيم القوات المسلحة المنقسمة، كان الناس قد يغفرون لهؤلاء الزعماء محاولة الاستئثار بسلطات دكتاتورية.

إلا أن الهند حولت أعظم نقاط ضعفها إلى قوة. وعلى النقيض من العبارة التي اتخذها الأميركيون شعاراً لهم: «من كثير إلى واحد»، اختارت الهند لنفسها شعار «من كثير إلى أكثر». فبدلاً من قمع التنوع باسم الوحدة الوطنية، أقرت الهند بالتعددية في تنظيماتها المؤسسية: كل المجموعات، والعقائد، والأذواق، والايديولوجيات تحيا وتضمن لنفسها مكاناً تحت الشمس.

غير أن ذلك لم يكن سهلاً يسيراً على الدوام. فقد عانت الهند من الصراعات الطبقية، والصدامات حول حقوق المجموعات اللغوية المختلفة، وأعمال الشغب الديني (بين الهندوس والمسلمين في المقام الأول)، والتهديدات الانفصالية، ولكن على الرغم من الضغوط والتوترات العديدة، ظلت الهند دولة ديموقراطية حرة متعددة الأحزاب قد يكون للفساد والعجز فيها مكان، فإنها مزدهرة على الرغم من كل ذلك.

من الأمور التي ساعدت الهند أن مؤسسيها، بداية من المهاتما غاندي، كانوا من الديموقراطيين الراسخين. كان جواهر لال نهرو، أول رؤساء وزراء الهند وأطولهم حكماً، قد أنفق حياته السياسية بالكامل في غرس العادات والقيم الديموقراطية في شعبه: ازدراء الحكام المستبدين، واحترام النظام البرلماني، والإيمان الراسخ بالنظام الدستوري.

أثناء ولايته رئيسا لوزراء الهند، حرص نهرو على تنشئة ورعاية المؤسسات الديموقراطية الوليدة في البلاد بإظهار احترامه له، بل وإعجابه بها. على سبيل المثال، في المناسبة الوحيدة التي انتقد فيها نهرو أحد القضاة علناً، سارع إلى الاعتذار في اليوم التالي، وأرسل خطاباً ملؤه التواضع والشعور بالذنب إلى رئيس قضاة المحكمة العليا في الهند. وعلى الرغم من عدم وجود أي منافس حقيقي لسلطانه، فإن نهرو لم ينس قط أنه استمد قوته وسلطته من شعب الهند، الذي ظل قريباً منه ومتاحاً لأي فرد من أفراده.

بهذه القدوة الشخصية، أصبحت القيم الديموقراطية راسخة إلى الحد الذي جعل ابنته أنديرا غاندي تشعر بالالتزام باللجوء إلى الشعب الهندي طلباً للغفران بعد أن علقت الحريات في العام 1975 بإعلان حالة الطوارئ التي دامت 21 شهراً. واحتراماً منها للقيم التي تشربتها من والدها، قررت عقد انتخابات حرة، وهي الانتخابات التي كانت خسارتها فيها ساحقة.

رغم أن السياسة الهندية ليست محصنة ضد إغراءات الطائفية، فإن شعب الهند وطَّن النفس على قبول الهند باعتبارها أرضاً تشتمل على العديد من الفوارق في الطبقات، والعقائد، والألوان، والثقافات، والقناعات، وحتى الأزياء والعادات، إلا أنها مازالت تحتشد بكل ما تحمله من اختلافات حول إجماع ديموقراطي. ويقوم هذا الإجماع على مبدأ بسيط مفاده أن كل مواطن ليس ملزماً بموافقة الآخرين في كل الأحوال، إلا حين يتصل الأمر بالقواعد الأساسية التي تحكم الكيفية التي يستطيع بها أن يختلف معهم. لقد تمكنت الهند من الصمود في وجه كل التحديات التي حدقت بها طيلة ستين عاماً، لأنها نجحت في صيانة الإجماع التام على الكيفية التي ينبغي لها أن تعمل بها حين يغيب الإجماع.

على سبيل المثال، تسمح الهند لكل الديانات بالازدهار بينما تحرص على ضمان عدم محاباة الدولة لأي من هذه الأديان. وهذا يشتمل على ضمان حقوق الطوائف، التي يستطيع المسلمون بموجبها أن يُـحْـكَموا وفقاً لقانونهم الشخصي المنفصل عن القانون المدني المشترك. وإذا كانت أميركا عبارة عن «بوتقة صهر»، فإن الهند عبارة عن مائدة من الأطباق السخية المقدمة في أوعية مختلفة. وكل من هذه الأطباق له مذاقه الخاص، وليس بالضرورة أن يمتزج بما يجاوره من أطباق أخرى، لكنها تنتمي جميعاً إلى المائدة نفسها.

لم يعد أحد يتحدث بجدية عن مخاطر التفسخ أو التحلل. ونجحت الدولة في تهدئة الحركات الانفصالية في المناطق النائية مثل «تاميل نادو» و«ميزورام» باستخدام صيغة بسيطة، حيث أصبح زعماء الحركات الانفصالية بالأمس حكاماً لأقاليم وولايات اليوم، وزعماءً للمعارضة في المستقبل.

فضلاً عن ذلك فإن الديموقراطية في الهند لا تشكل هماً لأهل النخبة فحسب، بل إنها تشكل عنصراً على قدر عظيم من الأهمية بالنسبة للجماهير المحرومة. ففي حين لا يقرب أغلب الفقراء في الولايات المتحدة من صناديق الاقتراع لم تتجاوز نسبة من أدلوا بأصواتهم من مجموع الناخبين المقيدين في هارلم %23 في الانتخابات الرئاسية الأخيرة سنجد أن الفقراء في الهند يسارعون في جموع غفيرة إلى صناديق الانتخاب.

ونتيجة لهذا فقد نجحت الهند أيضاً في توجيه الطاقة المتفجرة الكامنة في الانقسامات الطبقية نحو صناديق الاقتراع، حيث بات بوسع أقل الناس مرتبة أن يشغل أعلى المناصب. فقد انتخبت ماياواتي، التي تنتمي إلى الطبقات المنبوذة في الهند، حاكمة لولاية أوتار براديش، وهي أكبر ولاية هندية من حيث تعداد السكان، ثلاث مرات، بل إنها تتمتع الآن بأغلبية مضمونة.

نستطيع أن نقول بصورة أكثر عموماً إن منطق السوق الإنتخابي يعني عدم تمكين أي كيان مجتمعي بعينه من الهيمنة على الآخرين. فمنذ ثلاثة أعوام شهدت الهند، التي يشكل الهندوس %81 من سكانها، زعيمة سياسية كاثوليكية (سونيا غاندي) تمهد الطريق أمام زعيم من طائفة السيخ (مانموهان سينغ)، الذي تولى تنصيبه تحت القسم رئيس مسلم (عبد الكلام). وعلى النقيض من هذا سنجد أن أقدم نظام ديموقراطي في العالم، أي الولايات المتحدة، لم ينتخب بعد رئيساً ليس أبيض، أو ليس ذكراً، أو ليس مسيحياً.

لقد كانت الديموقراطية سبباً في تعزيز بقاء الهند التي تعمل على حماية الحيز العام المتاح لكل هوية أو كيان. وبهذه الصيغة تماسكت والتحمت الدولة التي تصور العديد من الناس أنها لن تتمكن من البقاء، وهو ما يجعل من عيدها الستين مناسبة تستحق الاحتفال.

 

*نائب أمين عام الأمم المتحدة سابقاً

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top