لا عجب أن كل خطوة تخطوها إلى الحلم، الجماعات المنادية بالحقوق والحريات في هذا البلد العربي أو ذاك، تتلوها عدة خطوات نحو الوراء، ولا يبدو أن شروط العمل المجتمعي في هذا المضمار متوافرة في حدها الأدنى، ومختلف العوامل المؤثرة بدءا من الثقافة وانتهاء بشدة البطش السلطوي، تتكاتف لتحبط أي حراك من ذاك النوع.

Ad

لمن يعتبر أن حلم العدالة والحرية هو حلم إنساني عابر للقوميات والجنسيات والتجارب المتباينة للشعوب في دروبها المختلفة نحو هذا الحلم، فقد استيقظ في الرابع من أبريل الجاري على كابوس مخيف.

في إحياء ذكرى اغتياله يوم التاريخ المذكور، قالوا إن مارتن لوثر كنغ بالتأكيد كان ليكون سعيدا بالمدى الذي وصله انقلاب حلمه حقيقة. الطريق الشائك الذي سلكه داعية الحقوق المدنية، ورائد إلغاء الفصل العنصري في الولايات المتحدة، مدهش في تفاصيله كلها. أساليب النضال التي اتبعها هو ومن آمن بحلمه، تجعل المرء ينحني إجلالا للذوات البشرية التي تفيض قوة ومحبة.

ذاك التصميم وتلك الإرادة، الانضباط والالتزام بروح الجماعة، المثابرة والنفس الطويل، الأفكار المبدعة التي شكلت أساس الحراك اللاعنفي، وتلك الطاقة الهائلة على صد الكراهية والعنف المتأتيين من الآخر بنقيضهما، التدرب على ضبط النفس وعلى المحبة أيضا، والإيمان بالذات وقدرتها على تحقيق أحلامها المشروعة.

وقد يرغب المرء في تسليم نفسه إلى أحلام اليقظة، فيرى نفسه إلى جانب شبان وشابات نظموا أنفسهم في مجموعات صغيرة، تتناوب الدخول على المكتبات العامة أو المطاعم حيث يمنع دخول السود. يجلسون بهدوء وسط استنكار أقرانهم البيض، يجري إخراجهم بالقوة من قبل الشرطة، فتكون المجموعة الثانية حلت محلهم وهكذا، وكأن الحلم سلسلة لا تهدأ من سباق تتابع.

مارتن لوثر كنغ استلهم طريقه من غاندي، وشمس مسيرة الملح التي مازالت تضيء مسيرة النضال اللاعنفي حتى اللحظة. لا عجب أن كليهما قضيا اغتيالا بالرصاص. هل فعلا يحتمل العالم فيض تلك المحبة كلها؟!

يبدو أن فيض القسوة هو ما يحمله العالم على كاهله في الوقت الحالي، النضال اللاعنفي تعولم، وأصبح بإمكان المرء أن «يناضل» إلكترونيا عبر توقيع عرائض وإرسال رسائل إلكترونية لأصحاب السطوة والحظوة، مستنكرا ومدينا ومطالبا، والمشاركة حتى بتظاهرات عبر الإنترنت! لكنه من نواح كثيرة أخرى فقد أدواته وقدرته على التأثير.

ثقافة النضال اللاعنفي في المناطق الأكثر ظلما واستبدادا، محصورة ضمن جزر معزولة وعاجزة. القيم التي يجتمع حولها هذا النضال فيتجاوز التنابذ والتنافر والخلافات، هي بحد ذاتها مختلف عليها، ومقابلة أي نشاط من هذا القبيل بالعنف الأعمى، تكاد تقضي على أي أمل بتحولها من أنشطة معزولة وفردية إلى حراك له قواعده الاجتماعية وأسسه الراسخة في الوعي.

جميع تجارب النضال اللاعنفي تطلبت بالتأكيد شجاعة كبيرة، ولم يخل الأمر أبدا من ضحايا على الرغم من سلمية النضال، لكن من ناحية أخرى، فمعظم تلك التجارب لم تواجه بعنف منفلت من أي عقال، صحيح أن كلا من غاندي ومارتن لوثر كنغ دفعا حياتهما ثمن «الحلم»، لكن صحيح أيضا أنه كان لديهما متسع من الوقت مع من آمن بما آمنا به، ليمضيا بتصميم وعزيمة إلى الهدف بعيدا عن موت سريع أو سجن مديد.

وإذا أضفنا إلى ذلك ظرفا دوليا مواتيا، يتجاوز السد المنيع لحجج السيادة ويتوافر فيه الحد الأدنى من الحياد، وبعض هوامش الحماية التي يمكن الاستعانة بها وقت الحاجة، مثل الدعم الإعلامي والقضاء المستقل، يغدو الحلم بالوصول إلى العدالة والحرية حالما أكثر مما يحتمله الواقع المر.

ولا عجب أن كل خطوة تخطوها إلى الحلم، الجماعات المنادية بالحقوق والحريات في هذا البلد العربي أو ذاك، تتلوها عدة خطوات نحو الوراء. ولا يبدو أن شروط العمل المجتمعي في هذا المضمار متوافرة في حدها الأدنى، ومختلف العوامل المؤثرة بدءا من الثقافة وانتهاء بشدة البطش السلطوي، تتكاتف لتحبط أي حراك من ذاك النوع. ويبدو التوقف الآن لإعادة النظر في الشروط الذاتية والموضوعية بمنزلة المستحيل. ما تم تحقيقه مهما كان باهتا أو سطحيا، كلف الكثير، والتراجع بقصد التأمل يعني إخلاء بعض الرقع التي جرى الاستيلاء عليها بثمن باهظ.

لكن ربما، من أجل الثمن الباهظ هذا، وجزء كبير منه معتقلات ومحاكمات صورية وتعذيب وغيرها من محاولات لا تيأس من أجل كسر الإرادة وفقدان الإيمان بالذات، قد نكون بأمس الحاجة إلى شيء من التأمل والمراجعة، المراوحة في المكان تستنزف الحلم وتنهك قواه، فكيف بالرجوع إلى الوراء.

عبارة مارتن لوثر كنغ الشهيرة «لدي حلم» ألهمت الملايين في شتى أنحاء العالم. لكنها لم تصنع من أحلامهم واقعا بالضرورة رغم ما بذلوا من تضحيات. هذا حالنا أيضا، فإما أننا ضللنا الطريق في متاهات الحلم، أو أننا كففنا عن أن نحلم أصلا.

* كاتب سورية