قيم المواطنة الدستورية تأتي كإحدى الركائز الأساسية لعملية الاندماج الاجتماعي والسياسي في الدولة الدستورية الحديثة، وهي الأساس الذي يعتمد عليه الاتحاد الأوروبي الآن في دمج الثقافات والهويات المتعددة لمواطني الدول التي يتألف منها في هوية وطنية واحدة.أتمنى أن يكون موضوع المواطنة الدستورية من ضمن أولويات البرامج الانتخابية للمرشحين الحاليين لانتخابات مجلس الأمة إن لم يأت على رأس هذه الأولويات. فقد مررنا خلال الأشهر القليلة الماضية بعدد من الأحداث السياسية التي بينت هشاشة التماسك الاجتماعي وأثبتت فشل سياسة الاندماج الاجتماعي بين جميع مكونات المجتمع الكويتي، هذا إذا كان فيه في الأصل سياسة عامة للاندماج الاجتماعي.
فقد برزت قبل فترة قصيرة وبشكل مقزز القضية الفئوية العنصرية «البدو والحضر» وما يسمى المناطق الداخلية والمناطق الخارجية، وها هي تتكرر الآن على لسان بعض المرشحين للتكسب السياسي خصوصا بعد محاولات تطبيق قانون منع الانتخابات الفرعية على بعض القبائل. كما طفت على السطح في الآونة الأخيرة وبشكل مقيت القضية الطائفية مما كاد يفجر صراعا طائفيا بغيضا.
لا شك أن هنالك من يدفع عن قصد ببروز هذه الاستقطابات الفئوية والطائفية ويحاول الاستفادة منها وتجييرها لمصالحه الخاصة، ولكن، دعونا نعترف صراحة بأنه لولا أن البيئة الاجتماعية والثقافية للكويت مهيأة ومستعدة، لما استطاع أي من كان أن يؤجج المشاعر النعرات العنصرية والقبلية والطائفية.
ومن أسف أنه بعد 46 سنة من العمل بالدستور فإن التنظيمات الاجتماعية السابقة للدولة الحديثة هي المسيطرة والمتحكمة والمسيرة لتفكير وسلوك أغلبية المواطنين، وهذا يدل دلالة بالغة على تعثر بناء مؤسسات الدولة الدستورية الحديثة، وعلى فشل السياسات العامة الحكومية (التعليمية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية) المتعلقة بالاندماج الاجتماعي وتعزيز فكرة وروح المواطنة الدستورية. فماذا يا ترى يعني ونحن في نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين وفي دولة من المفروض أن تكون مدنية دستورية، أن يتفاخر أطفال المرحلة الابتدائية بأعراقهم ومذاهبهم الدينية؟ وماذا يمكن أن نستنتج عندما يتباهى أغلبية طلبة الجامعة بانتماءاتهم الفئوية والعرقية والطائفية بدلا من أن يتفاخروا بإنجازاتهم الدراسية؟ أو أن يخوض بعض أساتذة الجامعة من خريجي أرقى الجامعات العالمية الانتخابات الفرعية العرقية والطائفية، أو ينادوا «بالفزعة الجاهلية» للمرشحين بدلا من الدعوة لاختيار ذوي الرؤية والبرنامج الانتخابي الواضح بغض النظر عن أصله أو عرقه أو طائفته؟ ولماذا كل هذا التنافس الشرس بين العوائل والقبائل والطوائف في انتخابات الجمعيات التعاونية والنوادي الرياضية ومجلسي الأمة والبلدي؟ ولماذا يحصل كل هذا التناحر الاجتماعي وبهذه القسوة التي لا تخلو من النفس الإقصائي ومن الاستبعاد والتهميش للطرف الآخر؟
ألا يعني هذا أن هنالك خللا رهيبا في قيم الانتماء الوطني وفي الثقافة المجتمعية، وضعفا وهشاشة في مؤسسات الدولة الدستورية الحديثة التي من المفروض أن ترسخ قيم وأخلاق المواطنة الدستورية؟ ثم، وهو الأهم هنا، ما العمل يا ترى؟
إن الكويت ليست المجتمع الأوحد في العالم الذي يتكون من أعراق وطوائف وفئات اجتماعية مختلفة، بل إن هنالك مجتمعات أكثر تعقيدا في تركيبتها الاجتماعية من الكويت واستطاعت من خلال سياسات عامة رشيدة وواقعية أن توحد كل هذه الاختلافات في انتماء وطني حقيقي واحد. فها هما دولتا الهند وبريطانيا اللتان تضمان عشرات إن لم يكن مئات الأعراق والأديان والطوائف والمذاهب واللهجات والألوان، حيث تقدمان أمثلة ساطعة على كيفية بناء مؤسسات الدولة الدستورية التي تضمن الاندماج الاجتماعي والمساواة والعدالة لكل هذه التكوينات الاجتماعية والدينية المتباينة مما زاد من غناهما الثقافي والحضاري وساهم في تطورهما التنموي.
وتأتي قيم المواطنة الدستورية كإحدى الركائز الأساسية لعملية الاندماج الاجتماعي والسياسي في الدولة الدستورية الحديثة، وهي الأساس الذي يعتمد عليه الاتحاد الأوروبي الآن في دمج الثقافات والهويات المتعددة لمواطني الدول التي يتألف منها في هوية وطنية واحدة.
لذا وحتى ندعم وحدتنا الوطنية الحقيقية ونساعد على تسريع عملية الاندماج الاجتماعي لجميع الهويات الثانوية المتعددة والمتوازية والمتنافسة بشراسة، ونحمي مجتمعنا الصغير من المزيد من الانقسامات الفرعية والتناحر والتفكك الاجتماعي لكي يتعدى موضوع الانتماء الوطني الشكليات والمستندات الرسمية فلا بد للدولة أن تكرس مفاهيم وقيم المواطنة الدستورية.
والآن وأثناء الاستعداد للانتخابات البرلمانية القادمة فإن العشم أن تجد قضية المواطنة الدستورية الاهتمام اللازم في البرامج الانتخابية للقوى والشخصيات الوطنية والديموقراطية... فهل يتحقق ذلك؟