Ad

حِداد بغداد وسوادها لا ولن يستمرا... هكذا قلنا منذ 2003... فكم من مرة لبست بغداد ثوب الحِداد، ولُطِّخ وجهها بالسواد، ثم ما لبثت أن بُعثت من جديد كطائر الفينيق، وخرجت لنا طاهرةً مغسولةً بالزَبد، كما تخرجُ الحوريات من البحار في الأساطير.

- 1 -

بغداد مدينة السلام... بغداد مدينة الحب والحياة والشعر... فمعظم شعر الغزل العربي الكلاسيكي والحديث خرج من بغداد، ولكن عهود الطغيان والظلم والاستبداد إلى آخر هذه الأسطوانة المشروخة التي لا نملُّ من تكرارها، صبغت بغداد بالسواد، وألبستها ثياب الحداد.

وأخيراً، غزاها «المغول العرب» من كل حَدْب وصَوْب، وأنزلوا فيها الكوارث، وقتلوا الآلاف، ومثّلوا بهم، ورموهم في دجلة. فإذا كان المغول الآسيويون في القرن الثالث عشر (1258م) قد أحالوا لون مياه دجلة إلى سواد، من كثرة ما ألقوا فيها من كتب، فإن «المغول العرب»، قد أحالوا لون مياه دجلة إلى حُمْرة الدم، من كثرة ما ألقوا فيها من رؤوس مقطوعة، وأشلاء منزوعة.

- 2 -

حِداد بغداد وسوادها لا ولن يستمرا... هكذا قلنا منذ 2003... فكم من مرة لبست بغداد ثوب الحِداد، ولُطِّخ وجهها بالسواد، ثم ما لبثت أن بُعثت من جديد كطائر الفينيق، وخرجت لنا طاهرةً مغسولةً بالزَبد، كما تخرجُ الحوريات من البحار في الأساطير.

واليوم، وبعد أربعة أعوام أو أكثر، من الحزن والحِداد، ولبس السواد، تعود بغداد... حمامة السلام البيضاء، ترفرف من جديد على أغصان الشجرة العربية الصحراوية اليابسة كالعرجون القديم، لتبعث فيها الحياة، وتُخضِّرها، وتنادي عصافير الحرية لكي يبنوا عليها أعشاشها، ويبيّضوا، ويفقسوا المزيد من طيور الحرية. فمن المنتظر –إذا ما تمّ النصر النهائي للعراق الجديد– أن تكون بغداد عاصمة الحرية في العالم العربي، يلجأ إليها كل المطاردين، والمستعبدين، والمعذبين، والهاربين من سياط جلاديهم، وعِصي أسيادهم.

- 3 -

تقول الأخبار، إن الطيور المهاجرة بدأت تعود إلى العراق بالآلاف، وإن الأعشاش العراقية المهجورة، بدأت تمتلئ بالطيور العائدة المغرّدة، وإن أبا نواس عاد يتسكّع في شارعه الشهير ببغداد، ويلقي أشعاره على الناس والحسناوات، فقد تم حديثاً افتتاح شارع أبي نواس الشهير كشهرة الشانزليزيه في باريس، وماريا تريزا في فيينا، وشارع الحمراء في بيروت. وشارع «أبو نواس» تمّ تدميره، وإظلامه، وإقفال مقاهيه، وطرد شعرائه منه، ومنع روّاده من الجلوس فيه، ومنع التصوير، لأنه يُطلُّ على قصور المستبد، ويُطلُّ على المنطقة الخضراء من الضفة الثانية لنهر دجلة، وقد بدأت عملية ترميم هذا الشارع التراثي وإعادة إعماره منذ العام 2004، كعلامة من علامات عودة الروح المبكرة إلى العراق.

- 4 -

ولم تقتصر احتفالات العراقيين بهذا الشارع على الجلوس في مقاهيه المطلّة على نهر دجلة، وتناول سمك «المسكوف» المشهور في هذا الشارع، ولكن الاحتفالات امتدت إلى إبراز جوانب الفن العراقي الراقي، التي حُرمنا منها في سنوات «كوليرا الإرهاب» التي اجتاحت العراق، فأقيم معرض تشكيلي لعدد من الفنانين العراقيين، وغنّى الشباب العراقي أغاني الحب، والحياة، والسلام، والحرية، والوطن.

- 5 -

لقد أدرك الفنانون التشكيليون العراقيون أكثر من غيرهم، أن الحِداد لا يليق ببغداد، لذا، بادروا بعد أيام قليلة من عودة المهاجرين العراقيين من الخارج إلى تغيير وجه جدران بغداد، التي شوهها النظام البائد بصورٍ دونكشوتية للزعيم الكرتوني الذي كان يُصوّر على جدران بغداد وهو يركب حصاناً مرة، أو يركب دبابة مرة ثانية، أو يرقص رقصة النصر المزيف مرة ثالثة، ويرتدي الزي العسكري برتبة مارشال، علماً أنه لم يكن يجيد حتى مسك العصا.

مسح الفنانون التشكيليون العراقيون كل هذه الصور التي تُزيّف الحقيقة والتاريخ والوطن، كما مسحوا شعارات الإرهابيين المكتوبة بالبويا الرش على الجدران، التي تدعو إلى استعادة حكم القرون الوسطى المظلمة، بحيث أصبحت بغداد عبارة عن مدينة من الرصاص، كالحة وحزينة، وبدأ الفنانون التشكيليون العراقيون يرسمون على جدران بغداد زهور وطيور الحرية والسلام بألوان الأمل والحياة، وكذلك يرسمون لوحات تاريخية صادقة، تُجسّد صوراً لحمورابي، وجوانب من مدينة بابل الأثرية، إضافة إلى أشجار النخيل، ومن الجميل والمفرح حقاً أن إحدى الشركات العراقية لإعادة إعمار العراق تتولى توفير الألوان، وأدوات الرسم الأخرى، ودفع أجور الرسامين.

قال أحد الرسامين الشباب: «لقد حوّلنا الجدران القبيحة إلى لوحات جميلة، ودورنا الآن إعادة الفن والحياة التي يحلم بها أطفالنا بعيداً عن العنف والدمار. لقد أصبحنا أحراراً، فلدينا الحرية في اختيار ما نرسم».

وتقول الأخبار إن مجموعات كبيرة من الرسامين العراقيين والتشكيليين –بما عرف عن أصالة وثراء الفن التشكيلي العراقي- قد انتشروا في كل أنحاء بغداد –متطوعين– يرسمون لوحات مختلفة من تاريخ العراق الحضاري الغني والممتد، من أجل إعادة الحياة إلى بغداد التي اغتالها العهد البائد، والأمل والسلام الذي قتله وباء الإرهاب مدة أربع سنوات ماضية.

- 6 -

اليوم يتجوّل أبو نواس في شوارع بغداد، ويقف الشاعر العباسي علي بن الجهم بين الرصافة والجسر، وينشد من جديد:

عيون المها بين الرصافة والجسر

جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

ويتجوّل هارون الرشيد والخليفة المأمون في شوارع بغداد السلام مبشرين بالسلام وحرية الفكر، في ظل بروز المعتزلة التي كانت تمثّل أطول منحنى للعقل العربي في تراثنا.

بغداد مدينة السلام، تعود اليوم حضناً دافئاً لأعشاش حمام السلام، بعد أن غادرها أبو مصعب الزرقاوي وأبو عبدالرحمن العراقي وأبومحمد المصري وكل الإرهابيين المفترسين.

* كاتب أردني