Ad

يوجد على الأرض الممتدة بين المحيط والخليج آلاف الكتاب ممن يؤمنون بأن الزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس يمكث في الأرض، وأغلب هؤلاء لن تمس أياديهم تلك الجوائز الرخيصة.

امتدت أذرع الفساد المتوحشة إلى العديد من الجوائز الرسمية والأهلية في العالم العربي، خاصة جوائز الأدب والثقافة، فأصبح كثير من حائزيها من ضعاف المواهب، خربي الذمم، ومن الذين يجيدون النفاق والمداهنة وكتابة التقارير الرخيصة إلى أجهزة الأمن، أكثر من إجادتهم الكتابة والإبداع. ويمتلك هؤلاء قدرة عجيبة على التغلغل في أوردة المؤسسات الثقافية، التي تستقبلهم بدورها مرحبة مغتبطة، ليدخلوا «الحظيرة»، يرتعون ويُسَّبحون بحمد السلطان، ويقبلون الأيادي في الغرف المغلقة، بحثاً عن أي منافع، ثم يخرجون للناس رافعين رايات النضال، يشتمون ويسبون، ليرفعوا من ثمن شرائهم، في لعبة ابتزاز مكشوفة بين نظم متسلطة ومثقفين خونة، لا تشبع بطونهم، ولا تمتلئ جيوبهم، ولا يفكرون يوما في حساب الله.

وللحصول على الجوائز في بلادنا طرق عجيبة، لا تخطر على بال الشيطان نفسه. فها هو أديب «كبير» يمتلك مهارة فائقة على المناورة والمداورة من أجل توسيع الدروب لصبيانه وتابعيه، قافزاً بهم إلى كل جائزة، وكل محفل وحفلة، وهاهو ناشر ـ أقصد ناشل ـ يحصل من الأدباء على آلاف الجنيهات لطباعة أعمالهم، فيشتري بجزء كبير منها خموراً وكيوفاً، حول بها داره هذه إلى «بار»، أو «غرزة»، يتفق فيها كبار السكارى والمساطيل على توزيع الجوائز على الصبيان، مقابل حفنة من الزجاجات المعتقة ولفائف الحشيش والبانجو، تعينهم على مواصلة الفصام، وترمم لهم بعض الشروخ النفسية الناجمة عن المزاوجة بين رفع اللافتات الصارخة في المظاهرات الحاشدة، وبين الزحف على البطون نحو المؤسسات الثقافية الرسمية في وضح النهار.

وتتداول الأوساط الأدبية الآن حكايات عن أديب شاب فائز بجائزة دارت الخمر برأسه فاعترف أنه اتفق مع العضو الأكبر في لجنة التحكيم على اقتسام قيمة الجائزة إن فاز بها، وآخر يقول إنه لا يكف عن مهاتفة المحكمين، والإلحاح عليهم، واستدرار عطفهم لحاجته الماسة إلى المبلغ المالي المخصص للجائزة، وثالث يعترف بأنه قدم للمحكم خدمات جليلة، ورابع حكى عن روابط الصداقة القديمة بأعضاء اللجنة، وناقد لا يكف عن الحديث عن علاقاته ببعض الأديبات، ممن يستخدمن مهارتهن الأنثوية في الترويج لأعمالهن، ليسرقن كل الحقوق التي للأديبات الموهوبات المحترمات في أعناق النقاد.

وباحث شاب، يكتب كثيراً من مقالات صحافي كبير قديم ثري، فاستخدم نفوذ الرجل في الحصول على جائزة محلية مرموقة، وعلى جائزتين عربيتين كبيرتين، بعد أن تمكن هذا الصحافي، المعروف بفساده منقطع النظير في دنيا الكلمة، من النفاذ إلى قلب الجائزة، والتحكم في مسارها ومصيرها، في غفلة من منظميها، الذين ما أرادوا منها إلا خيراً ونفعاً، وما ظنوا يوما أن أصحاب الياقات البيضاء والكلمات المنمقة المزعومة والوجاهة المصطنعة ما هم إلا لصوص وسماسرة ومرابون.

وهذا الجو الفاسد المقزز لا يقتصر على الجوائز الرسمية التي يذهب أغلبها إلى محاسيب ومجاذيب السلطة السياسية والثقافية معاً، بل يمتد إلى الجوائز الأهلية، فها هو أديب يحصل على جائزة عن رواية مسروقة من رواية أجنبية، ولسوء حظه تم تحويلها إلى فيلم، ففضحت سرقته وجرأته التي لا تأتي إلا لعتاة المجرمين، وها هو آخر يكتب ألواناً ركيكة من الأدب لا يمكن تصنيفها، فيحصل عنها على جائزة عن عمل بوصفه رواية، وجائزة أخرى عن العمل ذاته بوصفه مجموعة قصصية. وجوائز لا حصر لها تذلل شروطها أمام البعض، أو لا يعتد بها أصلاً، هكذا جهاراً نهاراً، في تبجح ليس له مثيل. وهؤلاء يحتضنهم ويباركهم نقاد آلوا على أنفسهم أن ينتصروا للون من الكتابة، تسبب في أن يهجر القراء الأدب بكل أنواعه.

ويفرح الفائزون، قصار القامة والقيمة، بجوائزهم، ويظنون أنها ستصنع منهم رموزاً، ولا يدرك أي منهم، أن كل الجماعة الأدبية والثقافية على وعي بما يجري ويدور، ولا تمتلك حيال هؤلاء إلا الاحتقار، وتوقن تمام اليقين أنهم سينزوون عما قريب إلى النسيان، لأنهم صنيعة زمن الانحطاط. وإن أراد هؤلاء أن يتأكدوا من صدق ما أقول، فليراجعوا جيدا الأدب الذي كتب في العصر المملوكي... فهل يتذكر أحد منهم أديباً أو كاتباً واحداً من هذا الزمن الرديء؟ لا أظن، مع أن العشرات من هؤلاء كانوا ملء السمع والبصر في زمانهم، وطالما حصلوا على نفحات وعطايا السلاطين والأمراء.

إن بعض من حصلوا على هذه الجوائز، رسمية وأهلية، يستحقونها عن جدارة، بل تشرف الجوائز بهم، لكن هذه القلة يستخدمها مانحو الجوائز ذراً للرماد في العيون، وللتعمية على اختيارهم ضعاف المواهب، وإعطاء ما أقدموا عليه مصداقية وسنداً. كما أن بعض النقاد لا يقبلون أبداً بيع ضمائرهم، ولا يكتبون إلا ما يقتنعون به ولا يحكمون إلا بالعدل والقسطاس، وهؤلاء عملة نادرة. ويوجد على الأرض الممتدة بين المحيط والخليج آلاف الكتاب ممن يؤمنون بأن الزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس يمكث في الأرض، وأغلب هؤلاء لن تمس أياديهم تلك الجوائز الرخيصة، لكنهم هم الأبقي... والأيام بيننا.

 

*كاتب وباحث مصري