Ad

حاول موسى بعد زيارته الأخيرة إلى لبنان وعودته إلى القاهرة أن ينأى بنفسه عما يمكن أن تحمله الأزمة اللبنانية من تطورات مأساوية فقال: الوضع اللبناني كثير التعقيد، وإن على الدول العربية والإقليمية التدخل بقوة لإنقاذ لبنان من الغرق في الفوضى السياسية والأمنية التي تمثل الطريق الأقصر نحو الكارثة الحتمية.

حكاية الذئب والحمل تتكرر في لبنان، مع فارق واضح هو أن الذئب تناسخ إلى ذئبين، ثم استجلبا ذئاباً أخرى إقليمية ودولية مشهود لها بالأنياب الحادة، وبعطشها المتواصل لدماء الحملان البريئة، وبجشعها المستمر في أكل اللحوم الطرية بلا ذنب أو فرية.

ولإنعاش الذاكرة، فإن قصة الحمل والذئب تحكي، بصورة رمزية، كيف أن الذئب ابن الذئب، خطط منذ البداية للفتك بالحمل الوديع البريء. ولأنه، أي الذئب، ينتمي إلى المدرسة الجديدة في نشر الحرية والديموقراطية ومبادئ حقوق الحيوان بواسطة إبادة كل من يعارض رأيه، فهو «يخجل» أن يقدم على فعلته هذه من دون إيجاد المبررات لإقناع الرأي العام الحيواني، بأن الحمل هو صاحب الأنياب الحادة، والعطش الدائم لشرب الدماء، بينما هو صاحب البراءة والطهارة والفروسية ونشر العدل والعدالة في تلك الغابة التي لا تعرف سوى قانون الأقوياء. لذلك اتهم الذئب الحَملَ بتعكير صفو مياه النهر الذي يقع ضمن مملكته وممتلكاته. وعندما رد الحمل باستكانة أبناء جلدته نافياً التهمة، استشاط الذئب غيظاً وأمسك برقبة ضحيته، وقبل أن يغرز أنيابه في الشرايين قال وهو يعوي مزمجراً: إذا لم تكن أنت شخصياً من فعل ذلك فهو أبوك أو جدّك أو جدّ جدّك. وقد حان وقت الحساب والانتقام.

بقي أن أذكر قبل أن أنتقل من الأسطورة الرمز إلى أسطورة الحقيقة ذات المخالب والأنياب الذئبية، أن الشعب اللبناني، وربما شعوب شقيقة أخرى تنتمي إلى قبيلة الحملان. أما قبيلة أو قبائل الذئاب، فقد باتت معروفة، ولا لزوم لإضاعة الوقت في تعداد مآثرها، وهي موجودة منذ بداية تاريخ نشوء الإنسان عندما قتل «قابيل» أخاه «هابيل» مسجلاً أول جريمة في التاريخ البشري.

عودة إلى الحكي بالسياسة من دون رموز أو من يرمزون... يخطئ كل من يظن أن أمين عام الجامعة العربية عمرو موسى قد فشل في محاولاته لإنقاذ لبنان. فالحقيقة المرّة تشير إلى أنه قد أصاب النجاح أكثر مما توقع المتوقعون. فالجامعة العربية بقيت – كعادتها – منقسمة على نفسها تجاه معالجة المأساة اللبنانية. وقد تطور هذا الانقسام وخرج إلى العلن بصورة حرب باردة تزداد غلياناً يوماً بعد يوم، بين معسكرين: الأول يمثل التحالف المصري – السعودي – الأردني بكل ما يملك من قوة وجبروت النظام العربي الواحد، بينما المعسكر الثاني تمسك سورية بحباله الغليظة بالتعاون مع إيران التي أصبحت، بفضل الغباء الأميركي، قوة إقليمية يحسب لها ألف حساب. وفي مفهوم ميزان القوى السياسية، فإن سورية لا يضيرها أن تكون الطائر العربي الوحيد الذي يغرد خارج سربه، ولا يؤثر ذلك على أهمية دورها في ساحات الصراع مع إسرائيل، أو الولايات المتحدة أو مع الأكثرية العددية داخل منظمة الجامعة العربية، أو مع كل هذه القوى مجتمعة. ذلك أن سورية تتبع، ومنذ عهد طويل، أسلوب إجهاض وإفشال مخططات الآخرين وتلعب دور المفسد لهذه المخططات (SPOILER). هذا الدور لاقى نجاحاً منذ استلام الرئيس السابق المرحوم حافظ الأسد إلى يومنا هذا. ونجاح سورية في هذا الدور يرجع إلى اعتمادها أولاً وأخيراً على الجغرافيا التي منحت سورية القدرة ليس على كسب معارك عسكرية، وهي لم تفعل ذلك، بل على ربح المعارك السياسية. وفي التاريخ الحديث أكثر من دليل على صحة هذا القول. من هذا المنطلق اتفق علماء الجغرافيا– السياسية على رفع شعار: الحرب بلا سورية ممكنة، لكن السلام من دونها مستحيل. ودمشق تلعب اليوم هذه الورقة بكل ما لديها من قوة وإصرار ولو أدى ذلك إلى تحويل التصدع في تجمع العرب في إطار الجامعة العربية، إلى «فرط» هذه الجامعة وإلغاء شعاراتها.

إن قدرة دمشق على إفساد لعبة خصومها تكمن اليوم في الساحة اللبنانية التي تحولت إلى مجال رحب لممارسة استراتيجية إفساد مخططات الآخرين، حيث أصبح لبنان رهينة هذا الصراع الذي لا علاقة له به، وحيث بات الشعب اللبناني، بمواليه ومعارضيه يجسّد الحملان الوديعة في أسطورة الذئب والحمل.

عودة إلى النجاح، وليس الفشل، الذي حققه عمرو موسى في لبنان، فالسيد موسى يمثل الأكثرية العربية في الجامعة، وهدف هذه الأكثرية هو فصل الجسم اللبناني عن الرأس السوري لاستيعاب اللعبة السورية تمهيداً لإفشالها، وقد وجدت هذه الأكثرية العربية العددية نفسها مضطرة إلى التعاون مع الفريق اللبناني المقاوم لعودة النفوذ السوري للبنان، وكذلك التعاون مع القوى الإقليمية والغربية لتحقيق هدفها. وكانت النتيجة تكليف عمرو موسى بتنفيذ خطة متعددة الرؤوس تبدأ في العمل على كسب الوقت للموالاة ومن ثم التفتيش الدؤوب عن نافذة ما لاختراق قوى المعارضة المؤيدة لسورية، وتنتهي في إتمام السيطرة الكاملة على لبنان. وهذا ما فعله عمرو موسى في خلال زياراته المكوكية، لكن القوى التي تقف وراءه فشلت إلى الآن في العثور على النافذة المطلوبة لشرذمة المعارضة، لذلك حاول موسى، بعد زيارته الأخيرة للبنان وعودته إلى القاهرة أن ينأى بنفسه عما يمكن أن تحمله الأزمة اللبنانية من تطورات مأساوية فقال في تصريح متلفز: الوضع اللبناني كثير التعقيد، وإن على الدول العربية والإقليمية «يعني إيران وربما تركيا» التدخل بقوة لإنقاذ لبنان من الغرق في الفوضى السياسية والأمنية التي تمثل الطريق الأقصر نحو الكارثة الحتمية. وتفسير هذا القول لا يحمل تأويلاً أو اجتهاداً. فعمرو موسى رغب في أن يغسل يديه شخصياً وليس أيدي الجامعة العربية من «دم هذا الصدّيق» الذي هو لبنان.

هذا الوضع الغارق في التشاؤم الأسود يضع لبنان أمام طريقين لا ثالث لهما؛ إما أن يستعيد صرخة «شمشون» قبل أن يهدم الهيكل على كل الرؤوس: عليّ وعلى أعدائي، وإما أن تتحرك القوة الوحيدة المتوافرة لديه «الجيش» لإنقاذ الهيكل وما تبقى من رؤوس، بعيداً عن محاباة الموالاة والمعارضة، حيث تفرض الأمن والاستقرار بقوة منطقها الإنقاذي المطلوب جماهيرياً.

قد يقال: إنها دعوة مفتوحة إلى تشجيع «الانقلاب» على الدستور. والرد على هذا القول أن الدستور اللبناني بات في خبر كان وصار مادة لتسلية السياسيين. وبالإمكان إعادة كتابته بشكل يتلاءم مع كل خصوصيات المجتمع اللبناني، المهم اليوم هو المحافظة على رأس البلد بين كتفيه، وكل ما عدا ذلك فهو كلام بكلام لا طائل تحته ولا فوقه. والأهم أن تتحرك «القوة الإنقاذية» بسرعة وقبل فوات الأوان وإلا...

* كاتب لبناني