Ad

في خضم الأحداث السياسية التي جرت في لبنان، برزت حقيقة تثير الدهشة والصدمة معاً، فالفريقان المتقاتلان -سياسياً إلى الآن- سورية وإيران ضد الولايات المتحدة، اتفقا من دون أن يجتمعا على نقطة واحدة، وهي تأجيل العثور على رئيس توافقي للبنان، والمصلحة تكاد تكون مشتركة، أما على الصعيد اللبناني الداخلي، فإن الرئيس إميل لحود المعروف بعناده مع الأصدقاء والأعداء، قد «سدّد» حساباته لحلفائه الذين تجاهلوا إصراره على «طرد» حكومة السنيورة من السراي.

في الأدب الإغريقي (اليوناني) القديم خرافة ترجمت إلى الإنكليزية باسم PANDORA BOX (صندوق باندورا)، لامجال لذكر تفاصيل هذه القصة، لكن ما يعنينا هو ما ترمز إليه، فصندوق باندورا مليء بكل أنواع الشرور، بالإضافة إلى أنه مرادف لانتشار الفوضى غير المنضبطة التي يحملها الهواء، وإذا ما فتح هذا الصندوق فإنه لن يُغلق أبداً، حيث يعمّ الدمار وتسود شريعة الغاب بين البشر. ولعل ما حدث وما سيحدث في لبنان في مدى الأيام والأسابيع القادمة ينطبق على تلك الخرافة الإغريقية القديمة.

انتهاء ولاية الرئيس اللبناني السابق إميل لحود، وخروجه من القصر الجمهوري من دون انتخاب رئيس ماروني مكانه، كما تقضي تقاليد البلد ودستور الطائف، لا يشكل نهاية الأزمة، بل هو البداية، وفشل الوساطات والمبادرات العربية والدولية في اختيار رئيس توافقي ليس انتصاراً لهذا الفريق على الآخر، بل هو، كما يحاول كل فريق أن يصوره، في الحقيقة وفي الواقع هزيمة الفريقين معاً، بالإضافة إلى أنه هزيمة بشعة للمجتمع اللبناني الذي هو الفريق الوحيد المؤهل لدفع الثمن الباهظ.

خلفيات ما حدث في الأسبوع الأخير لخروج لحود من السلطة، من دون التوافق على بديل له، كثيرة ومتشابكة، ومما زاد في إرباك المشهد مطابخ الطرفين التي عملت ليل نهار على «طبخ» الإشاعات ونشرها عبر الوسائل الإعلامية التي يملكانها أو يسيطران عليها، حيث قدما للمواطن اللبناني المسكين أطباقاً متنوعة مليئة بالسمّ في الدسم مما وضع التعبئة النفسية على حافة الانفجار الكبير والمريع. ومازالا يفعلان ذلك إلى الآن. غير أن ذلك لم يحجب الرؤية الحقيقية عن المراقب الذي ابتعد عن تناول هذه الأصناف، وقبل الدخول في سرد بعض هذه الحقائق لابد من التذكير وبكل دقة، أن لبنان أصبح قطعة رئيسة في المشروع الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط، فهو -يمثل- من الناحية الاستراتيجية الخط الثاني للدفاع في حال الانتكاسة في العراق، وفي الوقت نفسه يمثل خط الهجوم الأول في حال النجاح في العراق ضد سورية، إذا استمرت في اتباع منهج الممانعة، وإذا ما قيض لواشنطن ترويض سورية عندها يصبح الطريق معبّداً نحو حصار إيران وتدمير خطوط إمداداتها السياسية والشعبية في كل جوارها العربي بشكل كامل ونهائي، تمهيداً للخلاص من خطرها، إما عن طريق تغيير نظام الحكم، وهذا يتطلب وقتاً وصبراً طويلين، وإما عن طريق توجيه الضربات العسكرية المتتالية إذا كانت إدارة الرئيس بوش مستعجلة في تحقيق انتصار سريع قبل أن يخرج هو الآخر من البيت الأبيض.

إذاً لبنان الصغير محكوم بالنظرة الاستراتيجية الأميركية الكبيرة ولاحول له ولاقوة ولاسيادة ولااستقلال ولاحرية، والدخول الأوروبي المكثف إلى الساحة اللبنانية الذي شهدناه في الأيام العشرة الأخيرة هو استكمال للنظرة الأميركية، ولكن بطريقة مختلفة، فأوروبا بقيادة فرنسا سعت إلى الابتعاد عن فتح «صندوق باندورا» لقربها الجغرافي من لبنان، ولخوفها من تعرضها إلى شرور هذا الصندوق في حال فتحه، واتفقت مع الولايات المتحدة الأميركية على تجربة السير في خط مختلف لكنه مكمّل، والهدف هو الحصول على مفتاح الصندوق الذي هو بيد المعارضة اللبنانية بقيادة حزب الله وحلفائه من الذين مازالوا يحلمون بحتمية الوحدة العربية واسترداد كامل التراب الفلسطيني ولو بعد حين، وكذلك بيد الموالاة في حال انتخاب رئيس بالنصف زائد واحد.

وكان الاتفاق بين أوروبا وواشنطن أنه في حال فشل الهجوم السلمي الأوروبي تعود القيادة إلى العاصمة الأميركية، فالمهم هو الحصول على مفتاح الصندوق بالحسنى أولاً وبالقوة ثانياً، وفشلت أوروبا في هجومها السلمي بعد أن بذلت كل ما تملكه من أسلحة ترغيبية، وجاء وقت الولايات المتحدة لاستخدام أسلحتها الترهيبية التي باتت معروفة.

في خضم الأحداث السياسية التي جرت في لبنان، برزت حقيقة تثير الدهشة والصدمة معاً، فالفريقان المتقاتلان -سياسياً إلى الآن- سورية وإيران ضد الولايات المتحدة، اتفقا، من دون أن يجتمعا، على نقطة واحدة، وهي تأجيل العثور على رئيس توافقي للبنان، والمصلحة تكاد تكون مشتركة، فالصراع بينهما لم يحسم بعد، والتوافق يعني بداية الاستقرار، والاستقرار عدو النيران المتأججة ولامصلحة لإطفاء الحرائق اللبنانية كلها، بل المصلحة المشتركة في أن تبقى البلاد في ظل درجة معينة من الغليان تسهل معاً عملية تغذيتها عندما تدعو الحاجة إلى ذلك، لاستكمال الصراع على الساحة اللبنانية، لذلك من الخطأ القول إن دمشق وبالتالي طهران منزعجتان من عدم العثور على رئيس توافقي، ومن خلو مقعد الرئاسة من العنصر الماروني، بل على العكس، فإن دمشق استثمرت، وبذكاء ملحوظ، الأزمة، واستطاعت أن تفك، ولو آنياً، شبه العزلة الدولية التي كانت مفروضة عليها بسبب مواقفها المؤيدة للمشروع النووي الإيراني، ونالت الاعتراف الأميركي والأوروبي بأنها لاعب لا يمكن الاستغناء عنه في الساحة اللبنانية. أيضاً فإن واشنطن تبدو فرحة لانهيار الوساطة الوفاقية الأوروبية، لأنها من الأساس تلعب لعبة مزدوجة: إما الإتيان برئيس ترتاح إليه وتثق به مئة في المئة، سواء من فريق 14 آذار (الموالاة) أو من خارجه شرط أن يرتدي الثياب الداخلية لهذا الفريق، وإما الإبقاء على حكومة الرئيس فؤاد السنيورة مع صلاحيات الرئاسة اللبنانية الأولى، وحكومة السنيورة أثبتت جدارتها في الوقوف بوجه عواصف المعارضة، وبالثبات على تنفيذ بعض بنود المشروع الأميركي عن قناعة أو غير قناعة لا فرق. لذلك فإن الفريقين لعبا، من وراء الستار، دوراً ناجحاً في وضع العصي في دواليب العثور على مرشح توافقي يطفئ جذوة النيران المتأججة في لبنان منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

على الصعيد اللبناني الداخلي، فإن الرئيس الخارج من قصر بعبدا إميل لحود المعروف بعناده مع الأصدقاء والأعداء على حد سواء، قد «سدّد» حساباته لحلفائه الذين تجاهلوا إصراره على «طرد» حكومة السنيورة من السراي، والبدء بالمعركة في شهر يوليو أو أغسطس، واستغلال الفترة الزمنية المتبقية من ولايته (ثلاثة أو أربعة أشهر) لترتيب الوضع المعارض، وعندما رفضت المعارضة وتجاهلت إصراره الاستراتيجي هذا، قال لهم: ستندمون. (كما كتَبتُ في مقال سابق). وبالفعل ظهر الندم على أركان المعارضة وبدأوا يتهامسون: فخامته كان على صواب. وفي الربع الساعة الأخير من خروجه حاولت المعارضة وفشلت في إقناع لحود بتشكيل حكومة ثانية قبل انتهاء ولايته، وفي الوقت نفسه فشل لحود في إقناع قائد الجيش العماد ميشال سليمان بأن يتسلم صلاحيات رئاسة الجمهورية على رأس حكومة عسكرية-مدنية أو عسكرية صِرفة وقال للحود: لا أقدم على هذا الفعل إلا إذا طلب مني جميع الفرقاء المتنازعين ذلك. أي إذا كان هناك توافق، فردّ لحود: في حال وجود التوافق الذي تطلبه لن يكون هناك حاجة إليك وإلى الجيش.

يبقى الهمّ الشاغل المشوب بالرعب لدى اللبنانيين أولاً والعرب ثانياً، والمجتمع الدولي ثالثاً ألا يفتح «صندوق باندورا» المليء بكل أنواع الشرور الذي تقول الخرافة اليونانية القديمة إنه إذا فتح فلن يغلق أبداً.

* كاتب لبناني