في استعادة صحافية لرأي نزار قباني النقدي بشأن الشاعر صلاح عبدالصبور، كتب جهاد فاضل (جريدة القبس) بأن نزار وصف عبدالصبور، حين سأله عن رأيه فيه، بأنه «قباقيبي شعر»، فغرق السائل في الضحك قبل أن يغرق في التفكير والتخيّل!

Ad

«لذلك قلت له بعد أن عدت من الضحك: هل نصفه بهذا الوصف لأنه قال في قصيدة «شعبية» من قصائده:

«وشربت شايا في الطريق

ورتقت نعلي»!

قال: لا. لا أصفه بأنه «قباقيبي شعر» لأنه شرب شايا في الطريق، ورتق نعله، وإنما أصفه هذا الوصف انطلاقا من شعره».

السائل يسمي قصيدة صلاح بأنها «شعبية»، استهانة كما هو واضح، ولكي تتوافق مع رأي نزار الذي يرى في صلاح «قباقيبي شعر»، ولا بأس من إسهابه في توضيح معنى «قباقيبي» هذه. ونزار بدوره لا يسمي صلاح بذلك بسبب شربه الشاي ورتقه النعل، بل بسبب شعره عامة، مع أن في إشارته لرتق النعل أكثر من توكيد على استهجان نزار، واستهانة السائل.

يمثل الرأي، الذي تنطوي عليه هذه المحاورة الساخرة، الموقفَ النقديَّ الرسميَّ من الشعر، فنزار يحقق في شعره وآرائه في الشعر كل معمار الموقف النقدي الرسمي، فقد حقق أوسع جمهور من حيث الكم، بسبب موضوعيه المفضلين لدى الجمهور: «المرأة» و«السياسة». وشعره يعتمد المعيار الجمالي الشكلي، ويعتمد استثارة العاطفة الجاهزة لدى القارئ العربي، وهو، بفعل هذا، أكثر حرية في الحكم على أي شاعر، وأخيراً يؤمن، شأن معظم الشعراء العرب، بأن شعره يسعى الى تغيير واقع الحال، وأنه قادرٌ على ذلك.

حين وهنت قوى نزار الشعرية في التأثير بشأن المرأة والحب انتقل إلى السياسة، انتقل من شاعرِ الحبِّ والحنين، لشاعر يكتب بالسكين، على حدّ تعبيره. كان يسعى إلى تغيير واقع المرأة، عمادَ الحياة العربية، ثمّ صار يسعى إلى تغيير الواقع العربي جملةً. وهو بهذا مثل دكتاتور السلطة السياسية العربية، الذي لا يُداخلُ قناعته شكٌّ بأنه يسعى إلى تغيير المجتمع، وأنه وحده قادرٌ على ذلك، كلاهما نموذجٌ لإرادة مطلقة العنان باتجاه قمّة الهرم.

صلاح لم يكن كذلك، كان يعرف مُهمّةَ الشاعر القاصرة في حقل التاريخ، المجتمع، والسياسة. ويعرف مُهمتَه الرفيعةَ في إعادة خلق خبرة الكائن. شعرُه لا يناقش قارئه من أجل الإقناع، لأنه لا يحمل إرادة العقائدي للتغيير، بل يقدم رؤية، قد تكون غامضة في جملتها.

هذه واحدة من أهم وأخطر عناصر الحداثة الشعرية، التي لم يفهما نزار، ولا أدونيس بالتأكيد، ولا كثيرون غيرهما، ولعلّ في «ولعبتُ نرداً معْ صديق، ورتقت نعلي...»، العنصر الخطير الآخر، الذي سعى إليه تي. أس. أليوت، في موطن الحداثة الأصلي، بشأن لغة الحياة اليومية، وفهمه على الأثر كثيرون.

الشاعر الحديث، من موطن حيرتِه العلائية (أسوة بأبي العلاء)، لا يتطلع إلى ترّهات المفاضلة والمفاخرة المُتنبيّين (أسوة بالمتنبي). ولا يعتمد النزعةَ البلاغية في مراكَمة الاستعارة، والإصاتةَ الطنّانة، وإدهاشَ الصورة، واعتباط المخيّلة، والصوتَ النبوي، والفكرةَ اليقينية. وصلاح عبد الصبور كان كلّ هذا، وبصورة عالية الانسجام، ولذا بدا، في وعي الموقف النقدي العربي الرسمي ركيكاً، في أحسن قصائده، فكيف في أضعفها.

وليس غريباً أن يكون موقف نزار منه تام الشبه بموقف أدونيس، بالرغم من مهاجمة نزار لأدونيس، وأدونيس لنزار، بينهما وحدةُ الموقف النقدي الرسمي. مهما بدت الأقنعة مختلفة، أو حتى متعارضة.

ولا يقلّ الحماسُ النقدي المصري لصلاح، في أكثره، انتساباً لهذا الموقف الرسمي الموحّد، لأن حماسَه إقليمييٌّ، معهودٌ في الثقافة المصرية، وليس وليد فهم لعناصر الحداثة التي يتمتع بها عبد الصبور، وحجتي في هذا أن هذا الحماس يتوجه الى كثير من الأصوات الشعرية باسم الحداثة، وهي لا تملك من الحداثة إلا قناع نزار، أو قناع أدونيس!