حين يختفي الإعلامي مؤرخ اللحظة!!
إذا كان ألبير كامي يعتبر الصحافي مؤرخاً للحظة الراهنة، فإن ما يكشفه من حقائق لا يريد لها أن تفلت من بين يديه يستند إليه الباحث والحقوقي، فضلاً عن جهة العدالة والقضاء لإنزال العقاب بالمرتكبين. ولا شك أن المؤرخ لاحقاً سيستفيد من تراكم الأحداث والمعلومات في كتابة التاريخ.
كاد الحزن أن يمزّق أسرة تلفزيون «البغدادية» الفضائية، عندما وصلها خبر اختطاف مراسلها في بغداد منتظر الزيدي (الذي اختفى قسرياً حسب المصطلح القانوني المستخدم من جانب الأمم المتحدة) واكتنفت الحيرة مجلس الإدارة الذي سارع إلى إنشاء غرفة عمليات لمتابعة التفاصيل وإجراء الاتصالات المناسبة طيلة أيام المحنة العصيبة، منحيّاً كل أشغاله والتزاماته بما فيها الضرورية أحياناً.والسؤال الكبير الذي واجهته ادارة فضائية «البغدادية» يتعلق بماذا يتعيّن عليها فعله لتأمين سلامة زميلها والعمل على استجلاء مصيره، خصوصاً أن جهات كثيرة يمكن أن توجّه إليها أصابع الاتهام، ولكن قد يكون بدون دليل ملموس أو قرائن محددة وواضحة!؟وتزامن اختفاء منتظر الزيدي القسري بعد يومين من بث القناة لتقريره عن العائلة العراقية التي تعرضت ابنتها للقتل العشوائي من جانب القوات الأميركية وهي على مقعدها الدراسي في المدرسة الإبتدائية التي لبست ثوب الحزن والحداد، كما أحرقت دموع زميلاتها مع تذكّر آخر كلماتها وهداياها، في موقف مأساوي، وأعقب هذا الاختفاء اغتيال الشاعر والصحافي جواد الدعمي مقدّم البرامج في القناة ذاتها.إن عدم طلب الخاطفين لفدية أثار قلقاً كبيراً حول مصير الصحافي الزيدي، خصوصاً أن حالات مشابهة لاختطاف إعلاميين كانت نتائجها مأساوية، فلا القوات المحتلة أو الجهات الرسمية أو شبه الرسمية أبدت إكتراثاً كافياً في مثل هذه الحالات، أما المنظمات التكفيرية والإرهابية أو جماعات الجريمة المنظمة فلم تكن تؤرقها مسألة اختطاف أو تغييب أو قتل الإعلاميين، طالما أصبح الإرهاب ظاهرة يومية في العراق ما بعد الاحتلال.ولعل استهداف الإعلاميين في حالات النزاع المسلح الداخلي أو الحروب، أمر شائع، إذ ليس من المتوقع ردع مثل هذه الأعمال لمجرد أن أحد أطراف النزاع يستفيد منه أو يطالب به، خصوصاً في ظل غياب نصوص قانونية ملزمة ومعاهدات دولية رادعة وقابلة للتنفيذ، وتلك إحدى نواقص القانون الدولي الإنساني.إن مناسبة الحديث عن ذلك هو ندوة دولية مهمة نظمتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر في القاهرة يومي 12 و13 ديسمبر الجاري، وشارك فيها نخبة من كبار الإعلاميين وأساتذة القانون وخبراء حقوقيون عرب ودوليون، وإلى الآن لا توجد اتفاقية دولية تتناول الانتهاكات التي يتعرض لها الإعلاميون الذين يمارسون عملهم المهني الذي حددته المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في الحصول على المعلومات وتبادلها باعتبارها حقاً من حقوق الإنسان. لكن القانون الدولي الإنساني باستثناء إشارة تدعو إلى حماية الصحافيين خلال الحروب والنزاعات المسلحة، إذا لم ينخرطوا في النزاع أو ينحازوا إلى أحد الأطراف المتنازعة، لم يتوصل إلى وضع قواعد قانونية ملزمة وذات خصوصية تنسجم مع خطورة العمل المهني للإعلاميين، وخصوصاً في المناطق الساخنة. ولهذا السبب فالأطراف المتنازعة لا تبالي أحياناً في استهداف الإعلاميين ومؤسساتهم أو منعهم من الحصول على المعلومات أو نشرها أو إذاعتها، ولأن المعلومات ضرورية، ولاسيما من أجل إغاثة الضحايا أحياناً، الأمر الذي يتطلب وضعاً قانونياً مناسباً للإعلاميين، بعد أن كان عدم الاكتراث هو السائد بغياب ضمانات كافية للحماية، مما أدى إلى ارتفاع مستويات استهدافهم بشكل ينذر بالخطر، ففي العراق وحده وخلال فترة الاحتلال سقط أكثر من 170 صحافياً وإعلامياً بعضهم من العاملين في المنظمات الإنسانية الدولية أو مراسلين لجهات إعلامية دولية، ولعل هذه أكبر نسبة في العالم يتعرض فيها الإعلاميون للاغتيال.وورد في تقرير لمنظمة صحافيون بلا حدود أن عام 2006 وحده شهد مقتل 81 صحافياً في مناطق الحروب والنزاعات المسلحة في نحو 21 بلداً، وذلك قياساً لعام 2005 الذي شهد مصرع 63 صحافياً أثناء قيامهم بواجباتهم المهنية أو بسبب آرائهم ووجهات نظرهم.وقد شهدت مناطق النزاع من غير العراق، ارتفاعاً في عدد الضحايا من الإعلاميين مثل رواندا خلال عمليات الإبادة الجماعية والجزائر خلال النزاع بين الجماعات المسلحة والحكومة ويوغسلافيا خلال عمليات التطهير الاثني والعرقي والديني، ولم تتم عمليات تحقيق أو ملاحقة جدّية لحالات القتل خصوصاً في مناطق النزاعات المسلحة ووجود قوات أجنبية ومحتلة، كما لم تحدد المسؤوليات ولم ينل أحد عقابه، الأمر الذي أصبح ظاهرة صارخة، ولاسيما في العراق، فإضافة إلى اغتيال الإعلاميين فقد قُتل ما يزيد عن 350 عالماً وأكاديمياً وتعرض أكثر من 200 طبيب اختصاصي للاغتيال وعدد مثلهم جرى خطفه، مما اضطر أكثر من 5000 من العقول العراقية النابهة إلى الهجرة، إضافة إلى نحو أربعة ملايين مهاجر أو لاجئ.وإذا كان اعتبار الإعلاميين مدنيين، فهم محميّون طبقاً لاتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، خصوصاً غير المشاركين مباشرة في الأعمال الحربية في مناطق النزاع المسلح، لكن الإصرار على استغلال هذا الحق في الحماية لنزع ثقة الأفراد والجماعات من الأطراف المتنازعة واستهدافهم مباشرة، إنما يرتقي إلى أعمال الغدر والتدليس، التي تعتبر انتهاكاً للقانون الدولي الإنساني يستحق العقاب.جدير بالذكر أن القانون الدولي الإنساني يحاسب على الجرائم ضد الإنسانية بما فيها جرائم الإبادة الجماعية والتطهير بحق الجنس البشري لأسباب دينية أو عرقية أو غيرها وجرائم الحرب والعدوان، لكن البعض يحاول التهرّب من تحديد من يعنيه بالصحافي خصوصاً الذين يستطيعون الوصول إلى مناطق النزاع متحملين مخاطر مهنة المتاعب، وليكونوا شهوداً على الجرائم والممارسات التي ينقلونها، في ظل ثورة الاتصالات والمعلومات، بالصوت والصورة وفي الوقت المناسب.وإذا كان ألبير كامي يعتبر الصحافي مؤرخاً للحظة الراهنة، فإن ما يكشفه من حقائق لا يريد لها أن تفلت من بين يديه يستند إليه الباحث والحقوقي، فضلاً عن جهة العدالة والقضاء لإنزال العقاب بالمرتكبين. ولا شك أن المؤرخ لاحقاً سيستفيد من تراكم الأحداث والمعلومات في كتابة التاريخ وسيكون قسماً منها، وربما كبيراً، يعتمد على ما يدوّنه الإعلامي ساعة وقوع الحدث.الصحافة حسب الوصف البريطاني ونقول اليوم الإعلام «صاحبة الجلالة» تقدم تفاصيل وشهادات معرفية لا يمكن بدونها إنجاز الوظيفة المهنية الإعلامية أو المهمة الإنسانية الحقوقية، ناهيكم عن المهمة التاريخية التوثيقية مستقبلاً، «فالمعرفة قوة» حسب الفيلسوف فرانسيس بيكون!!* كاتب ومفكر عربي