Ad

الخطاب الديني اليوم هو خطاب الوعظ والإرشاد ومنابر الجمعة والشرائط المسجلة، والكتيبات بل الملصقات والإعلانات التي تستعمل لغة الدين للترويج للمنتجات مثل بخور مكة، وبلح المدينة، وعطر الحجاز، ومسواك النبي.

ليس المقصود بالخطاب الديني لغة القرآن والحديث، فهذا خطاب ليس من اختيار البشر، بل هي لغة توقيفية وليست وضعية بتعبير القدماء. هي لغة عامة وشاملة، بها العام والخاص، وضع ما ينبغي أن يكون ووصف ما هو كائن، الغيبي والحسي، الديني والدينوي، العقائدي والتشريعي، الإلهي والإنساني. ويستطيع الداعية أن يختار من هذا المعجم اللغوى ما يشاء طبقا لأهدافه وغايته. وعادة ما يختار اللغة العقائدية الأخلاقية أكثر مما يختار اللغة الاجتماعية والسياسية. فإذا اختار مفكر آخر هذه اللغة فإنه سرعان ما يتهم بالعلمانية والماركسية والاستشراق. ويصل الأمر إلى الاتهام بالكفر والإلحاد. لذلك عرض الأصوليون منطقا لغويا يهدف إلى إحكام المتشابه، وبيان المجمل، وتأويل الظاهر، وتخصيص العام. وهي لغة تحدث أثرها في النفس مباشرة لبساطتها وتوجهها نحو القلب من دون تكلف الدعاة أو حذق الخطباء أو بلاغة النحويين.

وهو ليس الخطاب السائد في العلوم الإسلامية القديمة، فهذه متنوعة أيضا بين أصول الدين وأصول الفقه وعلوم الحكمة وعلوم التصوف، ولكل علم لغته ومصطلحاته التي تكوّن مفردات خطابه، فلغة علم أصول الدين تعاليمية لا يفهمها إلا الخاصة، صورية مجردة. لذلك حرمه الغزالي على العوام في «إلجام العوام عن علم الكلام»، ولغة علوم الحكمة أيضا لغة عالمة مجردة، منقولة أي مترجمة عن اليونان، توحي بالاشتباه. تحول العقائد إلى ميتافيزيقا، والمعرفة إلى وجود، وهي أيضا للخواص، ولغة علوم التصوف بالرغم من الطابع الأخلاقي والروحي واتصالها بالتجربة الإنسانية فإنها أيضا تحوم حول المحارم إذا ما ظهرت ألفاظ الحلول والاتحاد ووحدة الوجود. أما لغة الأصول فهي لغة تشريعية قياسية تقنينية، تعبر عن الأوامر والنواهي والأحكام الشرعية، وهي ليست لغة الخطاب الديني المتداول في الحياة اليومية. هي من اجتهاد القدماء، تعبر عن عصرهم وثقافتهم في الداخل والبيئات الثقافية المحيطة من اليونان والرومان غربا إلى فارس والهند شرقا.

وقد بعُد العهد منذ ما يقرب من ألف عام، وتغيرت لغة العصر في الداخل، لغة الحداثة، وتبدلت البيئات الثقافية في الخارج، أوروبا وأميركا غربا، والصين واليابان شرقا، ومازالت الهند وفارس حاضرتين ثقافيا وعلميا، قديما وحديثا.

الخطاب الديني المقصود هنا هو الخطاب الرسمي في أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية خاصة المرئية بعد انتشار القنوات الفضائية وتخصيص بعضها للبرامج الدينية وشهرة «مشايخ الفضائيات» الذين يصدرون الفتاوى بالتحليل والتحريم، ولا يتكلمون إلا في الحلال والحرام، والأوامر والنواهي، والعقائد والغيبيات، وفيما لا ينفع الناس، ولا يتعرضون لتحديات العصر وقضايا الساعة. هو خطاب الوعظ والإرشاد ومنابر الجمعة والشرائط المسجلة، والكتيبات بل الملصقات والإعلانات التي تستعمل لغة الدين للترويج للمنتجات مثل بخور مكة، وبلح المدينة، وعطر الحجاز، ومسواك النبي. هو خطاب شبكات المعلومات مثل «إسلام أون لاين» وغيرها من المواقع الإسلامية لمشايخ الفضائيات أو للدعاة الجدد.

وهي أيضا لغة الجماعات الإسلامية المعاصرة، لغة الإعلام المضاد لإعلام الدولة، وإن كانت تتسم بنفس الصفات العقائدية والأخلاقية والأمرية، ما ينبغي أن يكون، والتشريعية. ولكن لتحقيق هدف آخر وهو جعل هذا الخطاب بديلا عن الخطاب السياسي الرسمي للدولة من أجل هز قواعدها. ويدعو إلى الرفض لحاكمية البشر باسم «الحاكمية لله»، وإلى عصيان القوانين المدنية بدعوى تطبيق الشريعة الإسلامية، في مقابل الخطاب الإعلامي الرسمي الذي يدعو إلى طاعة أولي الأمر والقيم السلبية كالصبر والتوكل والخوف والخشية أو ترك الدنيا والاستعداد للآخرة.

ويضم هذا الخطاب جانبين: الأول لمخاطبة الأنا، والثاني لمخاطبة الآخر، وهي نفس القسمة القديمة عند المتكلمين بين الفرق الإسلامية والفرق غير الإسلامية كما فعل الأشعري والبغدادي والشهرستاني والباقلاني. الأول يغلب عليه حشد الجماهير ورفض الواقع الاجتماعي والسياسي. والثاني يغلب عليه الدفاع عن الأنا والهجوم على الآخر. وهو الخطاب التقليدي المعادي للغرب الاستعماري القديم والجديد، ويقوم على رفض كل جدول الأعمال الغربي الموضوع للمجتمعات العربية الإسلامية مثل الشرق الأوسط الكبير، التحول الديموقراطي، المجتمع المدني، حقوق الإنسان، حقوق المرأة، الأقليات أو المفاهيم التي تعبر عن المرحلة التاريخية في تطور الغرب مثل العولمة، صراع الحضارات، نهاية التاريخ، ثورة المعلومات حين تنشغل بها الأمة، ولا تفكر في مفاهيم تعبر عن مرحلتها التاريخية الخاصة مثل الهيمنة الجديدة، الحركة الوطنية الجديدة، بداية التاريخ، حوار الثقافات، الائتلاف الوطني، القديم والجديد، الإصلاح والنهضة، الثورة والثورة المضادة. ولا تفكر في وضع جدول أعمال للغرب نفسه لأنه لم يتعود إلا على وضع جدول أعمال للآخر فهو المنظّر الأوحد. هو الذات وغيره الموضوع، هو الذي يقرر وغيره يتبع.

والخطاب نوعان: خطاب مدون في كتب أو كتيبات أو مجلات أو نشرات أو منشورات، وخطاب شفاهي مسجل على أشرطة في المساجد وعند الباعة أو على أقراص ممغنطة للسماع في العربات أو في المقاهي والمحال العامة، وفيه كل فنون البلاغة والخطابة للتأثير في الجماهير، وإقناعهم بدغدغة العواطف، وتملق الأذواق، واللعب على أوتار الوجدان بما فيه من مآسٍ وأحزان مثل الفقر والحرمان أو رغبات مكبوتة مثل الجنس والثروة والسلطة.

فثقافة ابن البلد ومزاجه وطبعه وحيله هي خير وعاء للخطاب الديني الشفاهي. وإذا كان مرئيا فإنه يُقرن بحركات الحواجب ارتفاعا وانخفاضا، وبمساحة العينين، فتحا وغلقا، وبهز الأكتاف، والتمايل يمينا ويسارا.

وينقسم الخطاب إلى ثلاثة مستويات: اللغة، والمعنى، والشيء، فاللغة هي مجموع المفردات والألفاظ المستعملة، تخضع لتحليل الألفاظ، والمعنى هو مجموع معاني الألفاظ والتصورات والرؤى التي تعبر عنها الألفاظ، ويعرف بتطابقه مع الخبرة الحية في الحياة اليومية، وقد يتضمن المعنى مناهج اقتناصه استنباطا من النصوص أو استقراء من الواقع. والشيء هو العالم الخارجي والواقع الاجتماعي الذي يحيل إليه الخطاب. وهو الموقف الذي يوجد فيه الداعية، وطبيعة جمهور المتلقي، والظروف الاجتماعية والسياسية المحلية والدولية التي يعيش فيها.

* كاتب مصري