Ad

علينا أن نعترف أن ثمة ميولاً أساسية في حقب بعينها، وفي بلاد أو مجتمعات بعينها لترجيح عوامل الثبات على عوامل الحركة والتغير. وأن التطور والتقدم يحدث أساساً بانطلاق عوامل التغير أي بترجيح ثقافة المشروعات على ثقافة التشريعات.

أحدثت ورقة لأستاذ العلوم السياسية بجامعتي الكويت والقاهرة الراحل الدكتور إبراهيم صقر ثورة في فهمنا للعلاقات الدولية، الورقة كانت تدور حول «الصواريخ الروسية بعيدة المدى». الدكتور صقر كتب ورقته بعد منتصف الخمسينيات بقليل، وهي الفترة التي كان السوفييت يطورون فيها سلاح الصواريخ أكثر من غيرهم، ومع ذلك لم يكن من الممكن أن تبدأ بشأنها مناظرات حقيقية الا بدءاً من نهاية عقد السبعينيات.

طوّر السوفييت سلاح الصواريخ بالذات- والتي كانت الاجتهاد الأساسي للهندسة العسكرية الألمانية- نظراً إلى الحاجة إلى إنتاج وسيلة نقل قادرة على قطع المسافات الكبيرة التي تفصل الولايات المتحدة عن الكتلة الأرضية الأوروبية. وترتب على انتاج أعداد كبيرة من الصواريخ العابرة للقارات أن صارت الولايات المتحدة في مرمى السوفييت، وتحقق بذلك توازن استراتيجي جديد تماماً بالرغم من «الحصانة الجغرافية» التي تمتعت بها الولايات المتحدة وجعلتها قادرة بفضل تفوقها البحري الحاسم، وقواعدها العسكرية التي انتشرت في أوروبا مع تشكيل حلف «الناتو» على ضرب الآخرين من دون أن يتمكن أحد من ردعها أو الثأر منها.

لم يكن إنتاج الصواريخ العابرة للقارات هو العامل الوحيد الذي همّش نسبياً المكانة الكبيرة لمدرسة الجغرافيا السياسية والثقافية في العلوم الاجتماعية والاستراتيجية، ففي نفس الفترة الزمنية قلبت الحيوية التكنولوجية والصراعات التوزيعية والتغير الايديولوجي والتحديث الجذري لجهاز الدولة وغيرها من العوامل موازين فهم المجتمعات من الثبات الى التحول، ومن الجغرافيا الى التاريخ.

وبالمقارنة بورقة الدكتور صقر وقفت كتابات هيكل الصحافية وحكاياته المسلية نموذجاً للفهم الاجتماعي والثقافي القائم على الجغرافيا. استندت كتابات هيكل الى نظريات الجغرافيين الكبيرين ماهان وماكيندر، وكانا تقدما بنبوءتهما بعد الحرب العالمية الأولى بازدياد أهمية الكتلة الأوراسية، وتحول المنافسة الدولية من أوربا الى الثنائي الروسي والأميركي.

وببساطة تنافست على عقول الطلاب والأساتذة العرب مدرستان؛ الأولى تقوم على القيمة المركزية للجغرافيا في فهم ما يحدث في المجتمع والعلاقات الدولية، والثانية تعطي الأسبقية للعوامل الديناميكية لا للعوامل الثابتة. وتصور الذين تبنوا المقاربة الأخيرة أن كل شيء قابل للتغيير، وأن الثوابت في طريقها إلى الاندياح في وقت تتسارع فيه الابتكارات وتختلط فيه الشعوب بفضل حركة الهجرة، وتتعقد فيه الاقتصادات، وتنتشر فيه الايديولوجيات والعقائد المؤثرة في سلوك الناس في كل مكان.

البندول المعرفي

وما ان انهار الاتحاد السوفييتي السابق حتى تحرك البندول المعرفي في الاتجاه المضاد لأسباب كثيرة، فالاتحاد السوفييتي نفسه كان يقوم على ايديولوجيا اجتماعية لا تعترف بالثبات ايا كان مصدره مقابل القانون العام للتحول والتبدل والتغير، الذي جعلته الستالينية الحشو الناعم للصنم الايديولوجي الذي عبدته. ومن ناحية ثانية فقد كنا نعيش عقودا طويلة في زخم من المتغيرات، مما أقنع عدة أجيال أن التغير والحركة هما الأصل، وأن السكون والثبات هما الاستثناء. ثم ان هذا التغير الناشئ عن عوامل إرادية كان ولايزال هو الأمل الوحيد لاقامة نموذج علمي للنهوض والتنمية، ومن دونها يكون الحكم على المجتمعات الفقيرة بالتخلف أو الارتداد.

انهيار الاتحاد السوفييتي أعاد مركزية الجغرافيا ليس فقط في ما يتعلق بالاستراتيجيات الدولية، إنما أيضا بفرص التقدم والنهضة، ولكن الجغرافيا عادت هذه المرة ثقافية وليست سياسية. وبتعبير آخر فإن التراث الثقافي هو الذي صار التفسير المفضل للتحول وللسلوك السياسي، لأن الروس عادوا إلى نوع من القيصرية الجديدة، أو العقائد القومية السلافية بعد أن تخلوا عن الماركسية.

وبالطبع لا تتعلق الجغرافيا بإحداثيات الموقع وخطوط الطول والعرض وخصائص المناخ وغيرها فحسب، بل بالموارد والقدرات وتوزيع الثقافات ومنظومات القيم والعقائد. بل ان المدرسة المحافظة في العلوم الاجتماعية رحبت وتحيزت بشدة للجغرافيا الثقافية لأنها تثبت اصطفائيتها. وبوجه عام تستند المقاربة المحافظة عموماً على هذه العوامل الجغرافية وتنتهي في معظم الأحوال بتأكيد «التفوق الطبيعي» للمناطق المعتدلة بالمقارنة بالحارة والممطرة على الجافة والمدن على الأرياف والصحارى. وحتى عندما يثبت العكس ببراهين قاطعة مثلما هي الحال مع التجربة اليابانية التي انطلقت من بلاد فقيرة في كل شيء الا البشر لا يغير المحافظون فكرهم الا في الحدود، التي يحشرون فيها عوامل اضافية داخل فئة الجغرافيا السياسية والثقافية.

وبالفعل عادت الولايات المتحدة إلى التفوق الاقتصادي على اليابان التي عانت أكثر من عقد ونصف الركود المستمر. ورغم قوة النبوءة التي تقول بحتمية بروز نظام دولي تعددي، فالولايات المتحدة نجحت حتى الآن في تأكيد هيمنتها على النظام واخضاع حتى روسيا والصين لمصالحها. ويرتبط هذا كله بالعوامل الجغرافية والثقافية.

والواقع أن الانقسام الحقيقي يبرز بين دول تقدر التقاليد تقديراً فائضاً وتمنح ثقلا غير عادي لكل ما له صلة بالأعراف الموروثة والتركة الثقافية والاجتماعية، وتلك التي تعتمد على الحركة وتمنح وزناً كبيراً للافكار والمشروعات الجديدة.

الاستقطاب يمكن أن نصوغه على النحو التالى: هناك مجتمعات وفرة التشريعات ومجتمعات وفرة المشروعات. «التشريعات» هنا كناية عن التقاليد والمنظومات الثقافية الموروثة وعميقة الجذور في المجتمع والعلاقات الاجتماعية الراسخة، بينما «المشروعات» تعبير دال على الرغبة في المخاطرة وابداع واستنباط ما هو جديد وتطبيقه.

وبطبيعة الحال فكل مجتمع فيه مزيج من هذا وذاك. ومن قبيل التكلف أن نصطنع مقابلة جامدة بين نمطين للمجتمعات على هذا النحو، فالواقع ان ثمة مروحة واسعة من الأنماط الاجتماعية تتوزع جغرافياً وثقافياً على كل مناطق العالم الكبرى، وفي داخل كل مجتمع لدينا هذا وذاك.

ومع ذلك فعلينا أن نعترف أن ثمة ميولا أساسية في حقب بعينها، وفي بلاد أو مجتمعات بعينها لترجيح عوامل الثبات (التشريعات) على عوامل الحركة والتغير (المشروعات). وأن التطور والتقدم يحدث أساسا بانطلاق عوامل التغير أي بترجيح ثقافة المشروعات على ثقافة التشريعات. وداخل نفس البلد تفضل السلطات ادخال تغييرات معينة على مجال معين (الاقتصاد تحديدا) مع الدفاع عن كل ملليمتر، مما يسمى بالثوابت في مجال آخر (عادة الثقافة وبالذات في ما يتعلق بالمرأة). وعلى سبيل المثال فاليابان مازالت البلد الأكثر محافظة على الهيمنة الأبوية ربما في كل الدول المتقدمة رغم تبنيها الرأسمالية والليبرالية! فنسبة ضئيلة من النساء تعمل خارج المنزل في اليابان، وتحصل النساء على أقل من نصف دخل الرجال عن نفس العمل! وربما لهذا السبب بين أسباب أخرى تعاني اليابان الركود.

وبكل بساطة قد نستطيع أن نفسر الركود المزمن لمصر وبعض البلاد العربية المماثلة بأنها تفرط في اصدار التشريعات التقييدية مقابل ضعف روح التجديد والحرية والرغبة في المخاطرة.

* نائب رئيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في الأهرام