ما يستوقفنا في مقالات «كنت شيوعيا» هو أنها، على الرغم مما يطبعها من نوازع الضغن والغيظ الشخصي، تشير، بوضوح وبراءة، إلى أبرز الآفات التي تنتاب علاقات العمل الحزبي لدينا بصفة عامة، وإلى أسباب تنافر العلاقة بين الثقافي والحزبي بصفة خاصة.

Ad

في واحدة من مقالات كتابه (سأخون وطني) كان الساخر الراحل (محمد الماغوط) قد وصف تجربة لقائه الأول، بالشاعر العراقي «بدر شاكر السياب»، الذي كان ضيفا على مجلة «شعر»، وذلك عندما كلّفه «يوسف الخال» صاحب المجلة بمرافقة الشاعر الضيف خلال تجواله في بيروت.

في تلك المقالة روى الماغوط أن السيّاب كان يتحرك عشوائيا بخفة الطفل ونزقه، فهو إذ يكون إلى جانبه في لحظة، يراه في اللحظة الأخرى قد تجاوزه منجذبا إلى شيء ما، وإذ يحرص الماغوط على أن يلازمه كظله، خشية أن يتيه في الزحام، يجد أنه قد اختفى فجأة، ليعثر عليه داخل أحد المحال، ولا يكاد «يستخرجه» من المحل حتى يضيع منه ثانية، ليكتشف أنه قد اختفى بإحدى الحافلات التي لا يعلم إلى أين تمضي!

ويختم الماغوط مقالته بالقول إن السياب، على ما يبدو، قد دخل الحزب الشيوعي بنفس الطريقة!

ولو أن الماغوط كان حيا، الآن، وتيسر له أن يقرأ كتاب «كنت شيوعيا» الذي تضمن المقالات «الاعترافات» التي كتبها السياب عام 1959 في جريدة «الحرية» البغدادية، عن تجربته في الحزب الشيوعي العراقي، لأضاف إلى تعليقه الأخير في المقالة، جملة مكملة تقول: «وأظنه بالطريقة نفسها قد خرج من الحزب الشيوعي»!

ففي تلك المقالات القديمة التي ظلت مخبوءة طيلة نصف قرن، والتي أعدها للنشر أخيرا «وليد خالد أحمد حسين»، لتصدر في أواخر العام الماضي عن دار الجمل بألمانيا، يبدو لنا، بجلاء، جانب الإنسان العادي والعشوائي الشاعر الكبير.

فعلى الرغم مما يطبع المقالات من لغة سليمة، وما تحمله من معلومات وتفاصيل طريفة وممتعة جدا، وعلى الرغم مما أراده لها كاتبها من رصانة وموضوعية، فإنها تعرض في معظم أجزائها، صورة الطفل الغاضب المثقل بالخيبة، الذي لا يوفر، في سورة غضبه، أي شيء أو أي شخص، ولا يتورع عن التقاط كل الحجارة التي بمتناوله، ليقذف بها زجاج واجهة المغضوب عليهم. ولولا ممانعة الجريدة في نشر بعض أقواله، كما ينبئنا هو في تضاعيف المقالات، لكان الأمر أكثر فداحة وأشد إضحاكا.

على أن هذا الوصف، وإن بدا سلبيا للوهلة الأولى، هو في المحصلة النهائية السمة الاساسية التي أبقت تلك المقالات حية وطرية، ووفرت من خلالها نافذة جيديدة لرؤية ومعرفة شخصية الشاعر، إذ ليس هناك من هو أكثر قدرة على الكشف أو الفضح من طفل غاضب!

ما يستوقفنا في مقالات «كنت شيوعيا» هو أنها، على الرغم مما يطبعها من نوازع الضغن والغيظ الشخصي، تشير، بوضوح وبراءة، إلى أبرز الآفات التي تنتاب علاقات العمل الحزبي لدينا بصفة عامة، وإلى أسباب تنافر العلاقة بين الثقافي والحزبي بصفة خاصة.

وعلى رأس هذه الآفات: الارتباط الأيديولوجي الأعمى بجهة خارجية حتى لو كانت مصالحها مغايرة تماما لمصلحة الوطن، والدعوة إلى الحرية قولا... وممارسة الدكتاتورية فعلا حتى ضمن النطاق الحزبي الضيق، وتحويل الحزب إلى صنم... فبدلا من أن يكون وسيلة للانتقال يصبح هو المحطة، وهو بهذا لا يتقدم على شأن الشعب والوطن فقط بل إنه يغسل رابطة الدم بالدم، فيتعادى الأهل ويتناحرون تبعا لأولوية الولاء لأيديولوجية الحزب، ثم تأتي الطامة الكبرى المتمثلة في جور الكم على الكيف... فمن أجل «توريم» الخاصرة العددية للحزب، تتسرب إلى العمل السياسي أعداد هائلة من الطفيليات التي تكتسح في صعودها أكثر المنتمين ثقافة وشرفا ونزاهة، معتمدة في تقدمها على أسبقية الانتماء، والجرأة على تنفيذ أقذر الأعمال.

وعلى هذا فإن السياب لو عاش أكثر، وتكررت طريقته العشوائية في التعلق بالحافلات الحزبية، لقرأنا له اعترافات كثيرة متماثلة برغم اختلاف الأحزاب، من قبيل (كنت بعثيا) أو (كنت قوميا) أو (كنت إسلاميا)، وذلك لأن أحزابنا، على اختلاف أسمائها وشعاراتها، تجري كلها مجرى (شهاب الدين وأخيه).

ولقد رأينا، منذ عقود طويلة، ولا نزال نرى اليوم، أمثلة حارقة على وضع الانتماء عموما والبعد الزمني للانتماء خصوصا، شرطا للتقدم في الدرجة أو (المنصب)، دون التريث، ولو قليلا، أمام الكفاءة الشخصية أو الموهبة أو المؤهل أو الخبرة، بحيث يصبح للمضمد، تبعا لذلك، مسؤولا عن الطبيب، والجندي مسؤولا عن الضابط والأمي الجاهل مسؤولا عن المثقف!

وبالعودة إلى مقالات الكتاب، سنرى بجلاء صورة لهذه الآفة الأخيرة، المدمرة، حين نعلم أن السياب المثقف والشاعر الموهوب، والمتعلم تعليما عاليا، قد وقع في فترة هروبه إلى الكويت، في أواخر الأربعينيات، تحت وطأة مجموعة من الشيوعيين الهاربين، مثله، ممن جعلوه خادما وضيعا يختص يكنس المكان وغسل الأواني وترتيب الفرش، ونصبوه هدفا لإهاناتهم وسخرياتهم، يقودهم في ذلك (مناضل) غاية خبرته في الحياة أنه كان يشتغل (سائق رافعة)، وغاية مؤهلة للتفوق على السياب وغيره أنه شارك في قتل وسحل الشاب البصري (أنس طه) الذي صنفه الحزب عدوا للشيوعية!

وقد وصف السياب شعوره بالمهانة والذلة بقوله: «لقد أنيطت بي أعمال من شأنها أن تحطم كبريائي الطبقية كأفندي»!

ونلاحظ، هنا، بذهول حدة شعور الرجل بالغيرة على موقعه «الطبقي» الرفيع، وهو الهارب أصلا إلى حيث تلك الأعمال، وإلى حيث أؤلئك الناس، بسبب أيديولوجيته الرافضة للفوارق الطبقية!

ما الذي أثار فيه هذا الشعور الغريب الذي يفترض أنه قد أماته في ذاته؟!

لقد أثارته محنة خضوع الثقافة والموهبة لسلطة الأمية المؤسسة على قدم الانتماء الحزبي والقدرة على تنفيذ الفظائع. وذلك أبسط مؤشر على ما تزرعه تلك الآفة اللعينة من عوامل الدمار في بناء الأحزاب وفي أرواح المحازبين.

وحسبنا مثلا على ذلك... هذه الصورة المضحكة والمؤلمة معا، مما رواه السياب عن علاقته المتوترة بذلك المناضل سائق الرافعة:

«في ذات يوم، حين بلغ السيل زبى نفسي، وكنت أتناقش مع لفتة محمد الذي أخذ يهاجمي بادئا بجملة «أنتم الأفندية... أنتم أبناء الطبقة البتي برجوازية، ونحن الكادحين... نحن أبناء الطبقة الكادحة» لم أتمالك نفسي فصحت به: تعال حاسبني، أينا الأفندي وأينا الكادح؟ أينا البتي برجوازي وأينا الفقير؟ إنك تتقاضى راتبا أكثر من راتبي، وتلبس ملابس خيرا من ملابسي، وتنام على فراش أحسن من فراشي، وتقوم بأعمال أهون مما أقوم به... إنك لا تكنس ولا تغسل الأواني القذرة فأينا البرجوازي وأينا الفقير؟ وإذا كنت تعتبرني برجوازيا لأنني لم أنحدر من طبقة فقيرة، فأنت إذن من أذناب الطبقة الحاكمة لأن أباك شرطي»!

وهناك صورة أخرى لا تقل إضحاكا وإيلاما، يعرضها السياب عند حديثه عن فلّاح أمي جلف اسمه (عبداللطيف)، إذ يقول إنه منذ بدء انتسابه للحزب قد طلب من رفاقه، باصرار، أن يسموه «لتفينوف»، فكان بذلك - كما أرى أنا - أول فلاح (بصراوي) يتعمد باسم روسي... فتأمل!

ومن مكارم هذا الـ«لتفينوف» التي يذكرها السياب أنه أحرق كوخه في القرية مدعيا أن القوميين المتآمرين هم الذين أحرقوه، فجمعت له تبرعات لتعويضه بلغت ثلاثمئة دينار، مع أن أغراضه التي احترقت لا تساوي أكثر من خمسين دينارا. ثم إنه كان يجمع التبرعات للحزب فيسلخ جلود الفلاحين سلخا في سبيل جمعها، ناثرا عليهم الوعود بتوزيع البساتين عليهم عندما يأتي الشيوعيون للحكم حتى إذا جمع عشرة دنانير أو أكثر لم يصل إلى الحزب منها سوى دينار واحد!

ومن مآثر «لتفينوف» أنه يوم اندحار فرنسا في الحرب، جلس يبكي على ساحة القرية «أهي... أهي.. انكسرت فرانسة»، وحين سأله العابرون عن سبب بكائه على فرنسا، أجابهم بأن زوج اخته يشتغل بتجارة التمور، وأن فرنسا هي التي كانت تستورد التمور العراقية في ذلك الوقت!

وفي النهاية فإن «لتفينوف» هذا، الذي كان ندا عنيدا للشاعر المثقف، قد أصبح بعد زمن وجيز معتمدا للحزب الشيوعي في قضاء أبي الخصيب... موطن السياب!

تلك لمحات يسيرة مما حواه الكتاب من صور آثار هذه الآفة غير أن هناك صورة مبكرة يرسمها السياب لآفة تصنيم الحزب التي يتعادى، في ظلها، أبناء الأسرة الواحدة، فيتنازعون في واقعهم اليومي، ويتنابزون على صفحات الصحف، بالغين الدرك الأسفل في التراشق بالشتائم والفضائح، مثلما جرى بين السياب نفسه وشقيقه الأصغر «مصطفى» بعد نشر الحلقات الأولى من سلسلة «كنت شيوعيا»... وذلك وغيره من المضحكات المبكيات يستحق أن تفرد لعرضه مساحة خاصة.

* شاعر عراقي- تنشر بالاتفاق مع جريدة

«الراية» القطرية