Ad

المؤسف المحزن أن مصر لم تعد تزرع الفول بالكمية الوفيرة التي كانت على مد النظر. وحلّ الغول مكان الفول! غول استباحة الأراضي الزراعية وتجريفها، ومن ثم زراعتها بالغابات الخرسانية القبيحة. زرع الأجداد فحصدنا الحبوب والخضار والفواكه وغيرها، ويزرع المقاولون ناطحات السحاب نافثة السموم والهباب، التي أحالت الريف الأخضر إلى أرض يباب

*ترقبنا صدور قائمة أسماء المتجنسين الجدد بلهفة وتوتر وقلق كما هو حالنا المتوجس السابق لإعلان نجاح أولادنا في الثانوية والجامعة. لذا شعرت بإحباط وأسى شديدين لغياب أسماء بعض من يستأهلون الجنسية بحق وجدارة، وبكافة المعايير! وجدتني لا شعورياً أتماهى مع حالة «الحداد» التي استحوذت على الأسر التي لم يتم تجنيسها! فقد حرن القلم ورغب عن الكتابة في السياسة. من حق القارئ والكاتب: قراءة ما هو بعيداً عن السياسة... ولذا دبجب هذه الخاطرة عن صديق عمري الحميم: فول مصر العظيم!

* يبدو أن عيني «النجدية» حارة، والعياذ بالله، فأصابت واحد من أعز الأصدقاء الحميمين الأثيرين إلى قلبي، أعني معدتي بمعنى أدق! أتحدث عن صديق الأعز «الفول» حبيب الملايين في كل مكان وحين! والفول هو الاسم الحركي للباقلاء أو (الباجِلّه)، كما يسمونه بالعامية، ولا أعرف سر ولعي المشبوب بالفول، ولا يعنيني ذلك. فمنذ أن تشرفت ببلعه أول مرة وقعت في حبه من أول لقمة! لا أذكر متى بدقة؟.. لا يهم، حسبي أني وجدتني مغرماً به ولا أمْلَّه أبداً. أحبه لأنه طعام شعبي ديموقراطي يطعمه الميسور والمستور على حد سواء. ويستأهل وصفه ونعته باسم رواية الأستاذ توفيق الحكيم «الطعام لكل فم» ولم يكن يعيبه (الفول ... لا الأستاذ الحكيم)، سوى أنه رخيص الثمن وفي متناول المليونير و«المديونير» معاً! هكذا كنت أقول عنه في معرض حديثي عن «لذاذته»، ومناقبه العديدة: غذائية صحية كانت أو اقتصادية واجتماعية. ويستحيل عليّ أن أكون متحلقاً حول مائدة الطعام بمعية أي أحد، دون أن أطري حُسنه وصفاته الممتعة. الأمر الذي أدى به، مع تقادم الإطراء وتواتره، إلى فقدانه «عيبه» الوحيد ومثلبته الفريدة المتبدية في رخص ثمنه.

لم يعد عمنا «الفول» ديموقراطياً شعبياً، كما هو دأبه على مر السنين، بل أصبح ارستقراطياً يتصدر موائد وبوفيهات نزل وفنادق الخمسة نجوم! كان «ابن بلد»، ومن عامة الناس البسطاء، فدارت الأيام فإذا به يصبح باشا ولورد وكونت... إلى آخر أسماء فصيلة الطبقة الراقية! بات ينتمي إلى المجتمع المخملي بعد أن كان من أهل المجتمع المهملي! وأصبح غالي الثمن مقارنة بسعره في الأيام الخوالي. الأمر الذي يضطر الإنسان المتربع على «الحديدة»، الخالي الوفاض الفارغ الجيوب من القروش والفلوس والدراهم، إلى أن يـأكل الفول «عالريحة» بمعنى أن يفترس الخبز حافاً بدون إدام! حسبه أن يشم رائحة الفول وهو يمضغ الرغيف فقط لا غير!

وأذكر في هذا السياق أننا كنا ثلة من طلاب الجامعة في مصر الستينيات من القرن «الفارط» بحسب لسان أخواننا المغاربة، نفطر كل يوم فولاً وطعمية وعدساً وبصلاً أخضراً.. ومن ثم ننفح النادل «الجرسون» بلسان عرب اليوم! جنيها «لحلوحاً» مباركاً، وكان الجنيه يكفينا ويزيد، حيث نسترد بقية الجنيه بعد أن ننفح النادل بضعة قروش، خشية أن ينعتنا ببني «جلدة» البخلاء والعياذ بالله! وكأن إدارة المعارف أوفدتنا إلى قاهرة المعز لإرتياد جامعة «التابعى الدمياطي» في باب الحديد بوسط القاهرة. وفي سورية وجدنا أخواننا الشوام في دمشق الفيحاء (حينما كانت فيحاء بحق) يأكلون الباقلاء التي نخبرها في بلادنا.. والفول الآخر الذي اشتهر المصريون بتناوله صباحاً وفي كل حين عند اللزوم، والفول المصري عريق وقديم ومتجذر في حياة الإنسان منذ أيام الفراعنة، لكنه فول محافظ لا يتطور ولا يتغير! بينما الفول الشامي (بالمعنى الواسع للكلمة) حداثي... وما بعد حداثي... وهلم جرّه! فالمصريون يعنون ببهورته وكثرة الملح والشطة في قوامه، بينما تجد الشوام يحفلون بلذة المنظر، و«لذاذة» الجوهر، فترى الطبق الفخاري «مزوقاً» بوريقات النعناع يعبق شذاه الطيب، وقطع الطماطم أو البندورة مزنرة بالبقدونس وغيره من الخضرة العطرة.

* واذا كان التمر «مسمار الركب» برأي قاطني الجزيرة العربية، فإن الفول عروس الموائد وشمعة «الجُلاس» المريدين له... وهم كثر، و«كثر» هذه تعني الإنسان والحيوان، كما هو معلوم ومجهول. والمصريون ما انفكوا يبتدعون النكات الساخرة عن الفول... يقولونها من باب «اللي يسبك يحبك» وربما درءاً للحسد والذي منه! كأن تهدد الولايات المتحدة الأميركية شعب مصر العظيم بقطع الجسر الجوي الذي يحمل على متنه القمح والفول «الكاليفورني» المسيَّس أو المسوس لا فرق!

* وقد باتت هذه المعونة ملعونة، نفهم بداية أنها مشروطة، وليست لله سبحانه... لكن تعال هنا.. كأني رحت بعيداً صوب السياسة، وهو منحى سيغضب صديقي العسول الفول. وما دام كذلك نرجع لمحور حديثنا! المؤسف المحزن أن مصر لم تعد تزرع الفول بالكمية الوفيرة التي كانت على مد النظر. وحلّ الغول مكان الفول! غول استباحة الأراضي الزراعية وتجريفها، ومن ثم زراعتها بالغابات الخرسانية القبيحة. زرع الأجداد فحصدنا الحبوب والخضار والفواكه وغيرها، ويزرع المقاولون ناطحات السحاب نافثة السموم والهباب، التي أحالت الريف الأخضر إلى أرض يباب لا تنبت إلا غابات اسمنتية حجرية كونكريتيه تثير الأسى والحسرة كالظافر من الغنيمة بالإياب.

الحق أنه لا هروب من السياسة إلا بالعودة إليها... لأنها- ببساطة- حاضرة في كل شيء. بما فيه الفول نفسه.. فلو قلت إنه شحّ من السوق، وزاد ثمنه ستجد نفسك اقتحمت ميدان السياسة من حيث لا تحتسب حقاً «إن من يكتب، مهما يكن، إنما يتورط» بحسب «جان كوكتو». فقد شرعت في البوح عن مشاعري تجاه الفول، بصيغة طافحة بالمشاعر الرومانسية المفرطة، ظاناً أن خاطرتي ستكون بعيدة عن السياسة، واتضح لي لاحقاً، أن هذا الظن لا يخلو من «التياسة»! ولعل الأخيرة مردها إدمان أكل الفول، كما يزعم خصومه وأعداؤه، الذين يرددون مقولات مثل «مصر هبة النيل»، وهي مقولة نحترمها، لكننا لا نراها صحيحة وصادقة تعبر عن واقع الحال المتبدى في مقولة «مصر هبة الفول»! والدليل الناصع هو في حضور الفول المدهش في حياة المصريين اليومية وفي إهمالهم للنيل العظيم، وعدم احتفائهم به إلى حد بات معه لا يصلح للشرب ولا السباحة... إلا إذا كانت بنية الانتحار والعياذ بالله! لم يعد ثمة أحد ينتحر فيه، ربما لأنه بات ملوثاً إلى حد مروع! منذ أن غابت عنه «عروس النيل» التي يحضنها فيضانه قرباناً وزلفى، ولذا فإن نهر النيل يليق به الحداد جراء ما حل به من تلوث واستباحة وعدوان وسوء إدارة أفضت إلى تضاؤل زراعة الفول في ريف مصر المحروسة.

بعد فتح العرب لمصر... أرسل عمرو بن العاص قائد الجيوش الإسلامية إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضى الله عنهما، رسالة يصف الآثار العجيبة للفيضان، موضحاً له إن رفاهية البلاد تكمن في صيانة الترع والقنوات. وبعد ذلك باثني عشر قرناً، يقول نابليون بعد الحملة الفرنسية «إذا كانت الإدارة رديئة، فاسدة أو ضعيفة: تصبح القنوات مسدودة بالطين، والترع غير مصانة، وتنتهك أنظمة الري، وتختل مبادئ الفيضان بسبب المصالح الخاصة للأشخاص والإدارات المحلية، كما ورد في كتاب «القاهرة وضواحيها» تأليف دي فوجاني- ترجمه مدحت فهمي- مكتبة مدبولي 2003.

وبعد: أليست مفارقة غريبة محزنة استيراد مصر للفول، مكتفين بلوك شعار «إذا خلص الفول.. أنا غير مسؤول!» الذي يرصع مداخل محلات باعة الفول؟! عجبي!