كيف تم إنقاذ الدستور؟
لم يكن صدور دستور الكويت عام 1962 مهمة مفروشاً طريقها بالورود، والدستور بصيغته التعاقدية الحالية، والذي تضمن تنازلات من طرفي المعادلة، الحاكم والشعب، وبمطبات كادت تحرفه عن طريقه، وتضيع سبيله.والملاحظ أن تلك المطبات كانت من نوع «التفاصيل» ولم تكن ذات بعد استراتيجي. وكم أضاعت التفاصيل أهدافاً سامية وأسقطتها وقضت عليها. فالقرار بإصدار الدستور قد تم اتخاذه، وتم تجاوز عقبة الدوائر الانتخابية التي كادت تودي بالدستور وتوابعه كما أوضحنا.
ونحن في غمرة الاحتفال بعيد الميلاد الـ46 للدستور الكويتي صار لزاماً علينا أن نذكر بعضاً من حوادثه وحكاياته، وربما نطرح سؤالاً قد لا يكون طُرح من قبل، وهو ماذا لو لم يصدر الدستور؟ كيف كانت الحياة السياسية ستسير؟ فقد اتضح لنا فعلياً أنه كان بالإمكان أن لا يصدر الدستور بالشكل الذي نعرفه اليوم، وعلى الأقل كان بالإمكان أن يتعرض إلى تشويه أكثر مما تعرض له، فقد وقعت حوادث وأحداث كادت تتسبب في تغيير المسار بشكل أو بآخر، كانت قد تؤدي إلى صدور شيء آخر، ربما أقل من دستور عام 1962.كانت البداية بعد انتخاب المجلس التأسيسي هي البحث عن نص يعتمد كمسودة أساسية لنقاش الدستور، فلم يكن هناك نص جاهز، وقد استعان رئيس المجلس عبداللطيف ثنيان بمستشار الحكومة رئيس دائرة الفتوى والتشريع محسن عبدالحافظ، الذي قدم مسودة للدستور لم تكن «تلبي» طموحات الشعب الكويتي، فبعد قراءة متعمقة لذلك النص، اتضح أنه يميل إلى تركز السلطات في يد الحكومة أكثر من التوازن الذي انتهى إليه الدستور في صيغته النهائية. والسؤال هنا ماذا لو لم تكن هناك نخبة سياسية واعية قادرة على التمحيص ومعرفة الأسس التي يفترض أن يُبنى عليها بناء ديموقراطي صحيح. ماذا لو كان رئيس المجلس التأسيسي شخصاً آخر غير عبداللطيف ثنيان وقبل بتلك المسودة كما هي؟ سؤال إجابته مفتوحة لكل الاحتمالات. وهكذا طلب رئيس المجلس التأسيسي من الشاب علي الرضوان أمين عام المجلس التأسيسي المتخرج حديثاً في القانون أن يزوده بأسماء خبراء في القانون الدستوري لكي يستعين بهم المجلس التأسيسي في إعداد مسودة الدستور، وهكذا اقترح علي الرضوان اسم د. عثمان خليل، الذي يتمتع بسمعة طيبة في هذا المجال، وكانت استجابة عبداللطيف ثنيان سريعة لاقتراح علي الرضوان فقد طلب منه مباشرة الاتصال به. وهكذا وقع الرضوان في ورطة فهو لا يعرف د. عثمان خليل شخصياً ولا كيف يتصل به... وعلى الفور قام عبداللطيف ثنيان بالاتصال بسفير الكويت بالقاهرة عبدالعزيز حسين طالباً منه تسهيل مهمة علي الرضوان، وهكذا سافر الرضوان إلى القاهرة بمسؤولية ستغير وجه الحكم وشكله ونمطه. كانت مهمة تاريخية بكل المقاييس. وصل على الرضوان القاهرة والتقى عبدالعزيز حسين الذي قام بدوره بالاتصال بالدكتور عثمان خليل وتم اللقاء وشرح المطلوب. وكما كان متوقعاً لم تكن المهمة سهلة، فقد اعتذر الدكتور عثمان خليل بسبب انشغالاته بالجامعة والتزامات اخرى، وأوضح أنه لن يتمكن من التجاوب مع الطلب إلا بعد ستة أشهر كحد أدنى. وكان علي الرضوان يريد أن يعود معه د.عثمان خليل إلى الكويت فورا ومن دون تأخير. كانت الفجوة كبيرة وإمكان ردمها شبه مستحيل. ولحل تلك المعضلة قام عبدالعزيز حسين سفير الكويت بمقابلة الرئيس المصري آنذاك جمال عبدالناصر الذي أجرى اتصالاً مباشراً مع د.عثمان خليل وطلب منه التوجه إلى الكويت على الفور، وطمأنه بأن رئاسة الجمهورية ستتابع إجراءاته الإدارية مع الجامعة. وهكذا شئنا أم أبينا كان للرئيس جمال عبدالناصر دور في إصدار الدستور الكويتي. فعندما ننظر إلى الوراء ونقيم عملية إصدار الدستور، فإننا نعرف جيداً الدور المحوري والرئيسي الذي لعبه د.عثمان خليل في إعداد الدستور خلال المراحل التحضيرية أو خلال نقاشات لجنة الدستور أو حتى بعد انتخاب مجلس الأمة، فقد اعتاد نواب مجلس الأمة الاستعانة خلال الجلسات بالخبير الدستوري لتفسير نص أو لتوضيح معنى لمادة دستورية أو لشرح مدى مطابقة مشروع برلماني ما مع روح أو نص الدستور. لقد ظل صوت د.عثمان خليل الصوت الوحيد الحاضر باستمرار في جلسات مجلس الأمة من غير النواب، وحيث إن الشيء بالشيء يذكر... فإنه من المفترض أن يقوم مجلس الأمة بتكريم د.عثمان خليل رحمه الله حتى وإن كان ذلك الأمر متأخراً. ولست هنا إلا للدفع بالفكرة نفسها، بما يخص علي الرضوان المحامي الذي كان وجوده كسكرتير للمجلس التأسيسي بحق تأكيداً لمقولة «الرجل المناسب في المكان المناسب»، وأزيد: في التوقيت المناسب.أقول ماذا لو أن أيا من هؤلاء الاشخاص لم يأخذ الموضوع بالجدية المطلوبة كل في موقعه، وكل حسب مسؤوليته. بيد أنهم لم يكونوا كذلك، بل تحملوا مسؤوليتهم على أتم وجه.وهكذا فقد أصبح لدينا طاقم فني مدعوم بحيوية سياسية شعبية ورغبة سياسية على أعلى المستويات في إنجاز تحولات تاريخية، أما كيف جرت الأحداث بعد ذلك، فللحديث بقية.