انطلاقاً من خلفية أساسها المرجعية التوراتية، قرأ مؤسسو أميركا مغامرة خروجهم من القارة القديمة نحو العالم الجديد، فتماهوا، على نحو صريح واع أو ضمني لاشعوري، بين خروجهم ذاك وخروج اليهود من مصر، فإذا رحلة سفينة «المايفلاور» عبر المحيط الأطلنطي، صنو رحلة التيه في صحراء سيناء، وإذا أرض العالم الجديد بمنزلة أرض الميعاد، وإذا تأسيس دولة الولايات المتحدة كتأسيس مملكة إسرائيل، مملكة الرب.عندما زار جورج بوش إسرائيل، التي كانت المحطة الأولى من جولته الشرق أوسطية الأخيرة، سعى إلى يادفاشيم، النصب المُقام في القدس لضحايا المحرقة النازية من اليهود، سعي الحاجّ المتبتّل، وتفوه بما يمليه المقام من عبارات قد لا ترد على اللسان يسيرة في مثل تلك الحالات، وبدا متأثراً صادق النبرة والأحاسيس، حتى اغرورقت عيناه بالدموع.
لم يتوقف المعلقون العرب مليّا عند تلك الواقعة، لحسن الحظ نكاد نقول، إذ إنهم لو فعلوا، لتوخوا إحدى مقاربتين تقليديتين، مزريتيْن في أحسن الأحوال وكارثيتيْن في أنكاهما وأكثرهما ترجيحاً: إنكار حصول المحرقة، فعلاً غير مجدٍ (ناهيك عن كل اعتبار أخلاقي)، مضاد المفعول، يدعم الموقف الإسرائيلي، في نهاية المطاف، من حيث يزعم النيل منه، أو التباكي على ازدواجية المعايير، تلك التي تجعل الرئيس الأميركي يبدي تأثراً حيال مأساة جرت قبل ستين عاماً أو ما يزيد عليها، ولا يكترث لمآس جارية، راهنة وفادحة، بعضها من صنع يديه ومن نتاج سياساته، كأننا براء من مثل تهمة الازدواجية تلك لا ترتد علينا، في شأن أكراد العراق سابقاً وأهل دارفور لاحقاً على سبيل المثال.
ومع ذلك، يجدر التوقف عند الواقعة تلك، إذ توفر مناسبة للخوض في تلك العلاقة الخاصة القائمة بين الولايات المتحدة، ككيان لا يُبتسر، في هذا الصدد، في دولته أو في نخبه أو في سياساته الرسمية، وذكرى محرقة اليهود.
إذ لا يكاد يوجد بلد، عدا ألمانيا المعنيّة تاريخاً واقترافا بتلك الفعلة، أكثر حفولا بالمحرقة من الولايات المتحدة، تستذكرها في كل آن، بالغة الحضور في وجدانها همّا قِيَمياً مقيماً، معيار الفصل بين الإنسانية والهمجية، وأحد أفعل مقاييس التمييز بين العدو والصديق، إن جارينا الفيلسوف الألماني (وكان بالمناسبة نازي الهوى) كارل شميت، الذي اعتبر التمييز ذاك روح السياسة ومبدأها، حتى ليمكن القول إن ذلك التعلق بالمحرقة يمثل بعض العناصر التكوينية لنظرة أميركا إلى نفسها وإلى العالم وإلى المنزلة الأخلاقية التي تأنسها في نفسها فيه.
هل يفي في استكناه ذلك أن يُعزى أمره، على ما هو شائع مبتذل، إلى سطوة اليهود، لوبياً فاعلاً كاسحاً في الإعلام وفي السياسة وفي الحياة الفكرية، أو إلى «عقدة الذنب الغربية» الشهيرة؟ لا يمكن الركون إلى العامل الأول، لأن الدعاية، مهما بلغت إتقاناً وإحكاماً، قد تكون فاعلة ناجزة في ما هو آني، وإن نجمت عن ذلك الآني أوضاع لا رجعة عنها، شأن انتخاب رئيس بعينه مثلاً، ولكنها لا يمكنها أن تؤسس لتوجهات ذهنية على قدر من عمق ومن ثبات، وأما العامل الثاني فهو لا يعني، تاريخياً، الولايات المتحدة، إلا إن ماهينا بينها وبين أوروبا الغربية، وهو ما لا يصح دوماً، وفي هذا الشأن اليهودي تحديداً، إلا إذا افترضنا أن أميركا قد قررت أن ترث عن أوروبا عقدةَ ذنب لم تقترفه أصالة عن نفسها.
إذ من المعلوم أن «العالم الجديد»، وهو الذي نشأ، على أيدي ملل ونحلٍ دينية انفكت عن أوروبا من أجل صون حرية معتقداتها، وأريد منه أن يكون طوبى مضادة لواقع الاضطهاد الديني والاجتماعي في القارة القديمة، لم يكن له ضلع في اضطهاد اليهود، ثم إنه استقبلهم جموعا نازحة تنشد الخلاص من بوغرومات روسيا وبولندا وسواهما، ثم إنه وفر لهم، مقاماً، أسباب الحرية والازدهار، ثم إن «العالم الجديد» ذاك، ممثلاً في الولايات المتحدة، هو الذي هزم ألمانيا النازية، وأنقذ اليهود من إبادة مبرمة.
لذلك قد لا يستقيم عامل «عقدة الذنب» بالنسبة إلى الولايات المتحدة، قدر صحته على أوروبا، بحيث يمكن القول إن تعلق الأولى باليهود وحدبها عليهم، أكثر تلقائية وأكثر طوعيّة، إن جازت العبارة، وقد يكون، تالياً، وراءه وازع من طبيعة أخرى، تأسيسية أكثر.
هل هو الوازع الديني؟ الأرجح أن الأمر كذلك وأن الوازع ذاك فاعل على صعيد المحتوى العقائدي، كما على صعيد التماهي الأسطوري، أو على صعيد أسطرة التاريخ على الأصح، في بلد هو أكثر البلدان الغربية تديناً. فالبروتستانية، الغالبة في الولايات المتحدة، أكثر «يهودية» من الكاثوليكية لأنها، من حيث المرجعية، تبدي عموماً تبجيلاً واضحاً للتوراة على حساب الإنجيل، حيث اتخذ تمردها على ما اعتبرته وثنية انجرت إليها الكنيسة الكاثوليكية (عبادة القديسين، منزلة السيدة مريم العذراء...الخ) شكل العودة إلى توحيد أصلي، فطري بسيط، منبعه «العهد القديم» الذي لم تلوّثه في نظرهم، وعلى خلاف اللاهوت الكاثوليكي، عقلانية الإغريق وما نجم عن الأخذ بها من إغراق في الجدل.
وعلى خلفية تلك المرجعية التوراتية، قرأ مؤسسو أميركا مغامرة خروجهم من القارة القديمة نحو العالم الجديد، فتماهوا، على نحو صريح واع أو ضمني لاشعوري، بين خروجهم ذاك وخروج اليهود من مصر، فإذا رحلة سفينة «المايفلاور» عبر المحيط الأطلنطي، صنو رحلة التيه في صحراء سيناء، وإذا أرض العالم الجديد بمنزلة أرض الميعاد، وإذا تأسيس دولة الولايات المتحدة كتأسيس مملكة إسرائيل، مملكة الرب. لا شك في أن ذلك التماهي الديني، الذي كثيراً ما استهانت به القراءة العلمانية للتجربة الأميركية، فنسبتْها بقدر من قسر إلى التنوير والتحرر حصراً، يمثل العنصر الفاعل، والمُهمل عادة، في تفسير العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، خصوصا أن التماهي ذاك قد استُؤنف، على نحو مستجدّ أقرب إلى تبادل المواقع، من خلال مغامرة إنشاء إسرائيل المعاصرة، التي تشبهت، أقله من حيث منحاها الاستيطاني الفارق، بالسابقة الأميركية... أطوار تماه بين الطرفين آخذ بعضها برقاب بعض، تسويغاً وشرعنة متبادلين يسبغهما أحدهما على الثاني دورياً.
ولكن هل يمكن إعادة خصوصية تلك العلاقة إلى هذا العامل الديني بمفرده؟ ذلك ما سنحاول سبره في مقالة لاحقة...
* كاتب تونسي