Ad

ليس هناك مخاوف حقيقية من انضمام دولة الكويت الى قانون المحكمة الجنائية، فدخول أكثر من 100 دولة في العالم الى نظام المحكمة يُضعف حجج المترددين، كما أن البنية القانونية الكويتية ليست بعيدة عن شرعة حقوق الانسان الدولية، وهي عامل إيجابي يدفع نحو التصديق على نظام المحكمة.

المحكمة الجنائية الدولية، هي وليدة اعلان روما الصادر عام 1998، مهمتها الرئيسية مكافحة الجرائم الدولية التي راح ضحيتها ملايين البشر جراء حروب كونية وعرقية مختلفة.

وحتى أغسطس 2006 فإن 102 دولة في العالم صادقت على النظام الاساسي للمحكمة، أما عن وضع الدول العربية، فإن هناك 13 دولة ارتضت التوقيع عليه، فيما صادقت دولتان فقط هما الأردن بتاريخ 11 يناير 2002 وجيبوتي في 5 نوفمبر من العام نفسه، والتصديق درجة متقدمة على التوقيع، فهو يعني القبول بأحكام وقواعد نظام المحكمة واعتبارها جزءا من تشريع الدولة، اما التوقيع فهو اعلان عن نية الانضمام مستقبلا.

ودولة الكويت احدى الدول التي ينتظر ان تضع تصديقها على أحكام نظام المحكمة، بعد ان وقعت عليه في 8 سبتمبر 2000.

ويتطلب اجراء المصادقة أمرين رئيسيين هما: تعديل كل من الدستور، وقانون الجزاء الكويتي، بما يتواءم والوضع الجديد الذي ستفرضه أحكام نظام المحكمة الجنائية.

والتعديل المراد هنا قد يأخذ شكلين، فبالنسبة للدستور، يمكن تعديل المواد التي قد لا تتواءم مع بعض أحكام نظام المحكمة، بحيث يتم تعديل كل نص على حدة، او اضافة نص واحد - وهو الأسهل - ضمن مواد الدستور وتكون له الاولوية على ما عداه من نصوص.

أما التعديل على قانون الجزاء الكويتي، فهو واجب سواء قررت الكويت التصديق على نظام المحكمة ام لم تقرر ذلك، ففي الحالة الاخيرة، فان التعديل سيساعد على استبعاد سريان اختصاص المحكمة الدولية التكميلي على اقليم دولة الكويت، وبالتالي وقف سريان المادة (13) من نظام المحكمة.

والتعديل على قانون الجزاء يتطلب بعد التصديق على نظام المحكمة الجنائية الاخذ بذات المبدأ الذي سيصار اليه بالنسبة للدستور، فإما ان يتم اصدار تشريع خاص بشأن مسألة التعاون مع المحكمة او اجراء تعديل على قانون الجزاء بما يتواءم مع الجرائم الجديدة المنصوص عليها في اعلان روما، وهي جرائم الحرب والجرائم الانسانية وجريمة الابادة الجماعية.

ومن الضروري هنا الاطلاع على تجربة كل من الاردن (كنظام ملكي) وجمهورية جيبوتي، وظروف انضمامهما الى المحكمة الجنائية الدولية، اضافة الى اكثر من 100 دولة اخرى في العالم انضمت الى المحكمة وارتضت باختصاصاتها.

وهنا لا يمكن اغفال دور الولايات المتحدة الاميركية المعرقل لنظام المحكمة من خلال عدم الانضمام اليها، ومعروف ان الضغط السياسي الذي تمارسه واشنطن على العديد من الدول التي تعقد معها علاقات تفوق سمات العلاقات السياسية الطبيعية المتوازنة، يشكل حاجزا يعيق زيادة عدد الدول الاعضاء في المحكمة الجنائية الدولية، فحكومة واشنطن تنشر جنودها في اكثر من بقعة في العالم، وهي تخشى ان تكون تحت طائلة المحكمة بسبب الاخطاء والجرائم التي يرتكبها بعض الجنود في دول كثيرة، قد تزيد مستقبلا بسبب النهج المنفرد في حسم الكثير من الصراعات، خصوصا في منطقة الشرق الأوسط.

ويبقى السؤال: ماذا تستفيد الكويت أو أي دولة في العالم من جراء اعتبار قانون المحكمة الجنائية الدولية ونظامها الاساسي جزءا من تشريعها الوطني؟... الاجابة عن هذا السؤال تكشف فوائد عديدة لذلك، وهي المساهمة في قمع النزعة الاجرامية لكثير من الديكتاتوريات في العالم، وتوحيد جهة الفصل في الجرائم الدولية، ووقف صيغة (محكمة مؤقتة لكل جريمة)، ومساعدة القضاء الوطني في تعقّب المجرمين، وأخيرا مساهمة الدول في تعزيز الامن والسلم الدوليين.

ومن المعلوم أن دولة الكويت دخلت في العديد من الاتفاقيات الخاصة بحقوق الإنسان التي تعالج مبادئ نص عليها نظام المحاكم الجنائية الدولية، مثل اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، واتفاقيات جنيف، واتفاقية مناهضة التعذيب، واتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية، والبروتوكولين الخاصين باتفاقية جنيف، وهو ما يشكل إرثا ايجابيا يساعد على التفكير الجدي بالانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية.

ويعد ضروريا جدا تفعيل الحوار الوطني حول هذه القضية المهمة، وعقد الندوات والمحاضرات، وتنشيط البحث الدستوري والقانوني لمعرفة تداعيات الانضمام لأهم نظام ابتكرته البشرية لسيادة العدل وغل أيدي الطغاة والقتلة في عالمنا اليوم.

الجرائم التي تخضع لاختصاص المحكمة

وفقا لتعبير النظام الأساسي، يقتصر اختصاص المحكمة على أشد الجرائم خطورة التي تكون موضع اهتمام المجتمع الدولي بأسره، وللمحكمة بموجب النظام الأساسي اختصاص النظر في الجرائم التالية: جريمة الإبادة الجماعية، الجرائم ضد الإنسانية، جرائم الحرب، وجريمة الاستيطان.

نطاق اختصاص المحكمة؟

من وقت بدء ممارستها اختصاصها، لا يسري اختصاص المحكمة الجنائية الدولية على الجرائم التي ارتكبت قبل سريان معاهدتها (أي أن اختصاصها مستقبلي فقط).

الدول أو الأشخاص الذين يمكن للمحكمة ملاحقتهم قضائياً

تختص المحكمة الجنائية الدولية بنظر الدعوى متى كانت الجريمة محل الاتهام ارتكبت في إقليم دولة طرف أو بمعرفة أحد رعايا هذه الدولة، كما تختص المحكمة أيضاً بنظر الدعوى عندما توافق دولة ليست طرفاً في معاهدة المحكمة على اختصاص المحكمة، عندما تكون الجريمة قد ارتكبت في إقليم هذه الدولة أو يكون المتهم أحد رعاياها، ويطبق اختصاص المحكمة الجنائية فقط على الأشخاص الطبيعيين الذين يرتكبون جريمة بعد بلوغهم 18 سنة. ويلاحظ أنه لا يستثنى شخص من المسؤولية الجنائية بسبب صفته الرسمية، حتى ولو كان ذلك وارداً في القانون الداخلي للدولة المعنية.

مؤتمر الأمم المتحدة الدبلوماسي للمفوّضين في روما

بعد مفاوضات عسيرة شهدها مؤتمر الأمم المتحدة، وما جرى فيه من نقاشات حامية وظهور الكثير من التباين في الآراء والمواقف، خصوصا فيما يتعلق باستقلالية عمل المحكمة ودور مجلس الأمن في إحالة القضايا إلى المحكمة، بحيث كادت هذه النقاشات أن تؤدي إلى تهديد المؤتمر بالفشل، لكن اعتماد صيغة الصفقة الواحدة «أي إما بقبول النظام الأساسي للمحكمة مع التعديلات التي اتفق عليها أو رفضه كليا»، كان من نتيجته أن تم التصويت على النظام الأساسي الذي اعتمد بموافقة 120 دولة صوتت لمصلحته، وامتنعت عن التصويت عليه 21 دولة، واعترضت على النظام الأساسي 7 دول هي الولايات المتحدة، إسرائيل، الصين، الهند، العراق، ليبيا وقطر.

وهكذا في 17يوليو عام 1998 وبعد اكثر من خمسين عاما، اختلط فيها الأمل بالقنوط، وبعد خمسة أسابيع من المداولات بين الممثلين، اعتمد مؤتمر الأمم المتحدة المعني بإنشاء محكمة جنائية دولية النظام الأساسي للمحكمة في روما.

خلاصة تقرير «لجنة العدل» حول الأثر القانوني للتوقيع على نظام المحكمة

خلصت لجنة وزارة العدل المكلفة بدراسة الآثار القانونية المترتبة على تصديق الكويت على نظام المحكمة الجنائية، إلى العديد من الملاحظات المهمة الخاصة ببعض مواد الدستور وقانون الجزاء الكويتي، ويعد من الضروري تطوير هذا التقرير عبر المزيد من المناقشات والحوارات البناءة بالنظر إلى أهمية ارتباط الدولة بنظام المحكمة، وفيما يلي أهم الملاحظات:

أولاً: المحكمة والدستور

1- تعارض نصوص مواد الدستور أرقام (132)، (162)، (173) مع المادة (4) فقرة (2) من النظام الأساسي للمحكمة، وتتعلق المادتين الاوليين بالمسائل الخاصة بالسلطة القضائية، فيما تختص المادة (173) بمحاكمة الوزراء، ويثار هنا شبهة التدخل في ممارسة السلطة القضائية لدورها في اقليمها، فنظام المحكمة يؤكد في المادة المذكورة على ان للمحكمة أن تمارس وظائفها وسلطاتها في اقليم أي دولة، أو أي دولة باتفاق خاص، إلا أن هناك آراء اخرى تستند إلى نص المادتين (164) و(70) فقرة (2) من الدستور، حيث تنص الاولى على مسألة ترتيب المحاكم على اختلاف انواعها ودرجاتها وتبين اختصاصاتها ووظائفها، فيما تنص المادة الأخرى على أن دخول الدولة في المعاهدات على اختلاف انواعها يتطلب اصدار قانون خاص بها، وهو الرأي الذي ينفي وجود تناقض أو تعارض بين مواد الدستور وبين مباشرة المحكمة الجنائية الدولية لسلطاتها على الاقليم الكويتي.

2- شبهة التعارض بين المادة (99) فقرة (2) من النظام الاساسي التي تتيح للمحكمة حق عقد مقابلة مع شخص، أو أخذ أدلة منه على اساس طوعي من دون حضور السلطات المحلية، متى ما كان هذا الاجراء ضروريا، أو معاينة موقع عام، وبين المادة (167) من الدستور التي تنص على ضرورة تولي النيابة العامة الدعوى العمومية باسم المجتمع، وتشرف على شؤون الضبط القضائي وتسهر على تطبيق القوانين الجزائية وملاحقة المذنبين وتنفيذ الأحكام.

ثانياً: شبهات حول مبدأ الحصانة

أثارت المادة (27) من قانون المحكمة الدولية نقطتين مهمتين هما: أن سلطاتها تبقى سارية على جميع المسؤولين في الدولة بمن فيهم رئيسها، وأن الحصانة لا تعفي أيا منهم من المساءلة، وهنا يبرز الخلاف حول مفهوم الذات الأميرية في المادة (54) من الدستور، وكون الأمير يتولى سلطاته عبر وزرائه بحسب المادة (55)، كما تثار الشبهات حول حصانة اعضاء مجلس الأمة في المادتين (110) و(111) من الدستور مع نص المادة (27) من قانون المحكمة.

ثالثاً: شبهات حول موضوع تسليم الأفراد

هناك شبهة تعارض المادة (89) فقرة (أ) والمادة (102) من النظام الاساسي للمحكمة مع المادتين (28) و(46) من الدستور، حيث تكفل مواد نظام المحكمة المشار إليها القبض على شخص مطلوب للعدالة عن طريق تقديم طلب إلى الدولة المعنية ونقله وتسليمه عملا بنظام المحكمة.

ويرى البعض شبهة في هذه الاجراءات تصطدم مع نصوص مواد الدستور المشار اليها، الخاصة بعدم جواز ابعاد الكويتي ومنعه من العودة اليها، وكذا المادة الخاصة بتسليم اللاجئين السياسيين الذي اعتبره الدستور محظورا.

رابعاً: شبهات حول تقرير وتنفيذ العقوبات

شبهة تعارض المادة (110) من نظام المحكمة الدولية مع المادة (75) من الدستور. اذ ينص نظام المحكمة على حقها في البت بأي تخفيف للعقوبة، فضلا عن ان دولة التنفيذ لا يجوز لها الافراج عن شخص قبل انقضاء مدة العقوبة. فيما النص الدستوري المشار اليه يؤكد حق الامير في العفو بمرسوم، او بموجب قانون العفو الشامل الصادر عن مجلس الامة، ووجه التناقض هنا انه بصدور العفو يكون الجهاز القضائي الكويتي غير قادر على التدخل، مما يحقق حالة من حالات اختصاص المحكمة.

الا ان الرد على مثل هذه الشبهة تنظمه المادة (20) فقرة (3) من النظام الاساسي للمحكمة القاضي بعدم جواز محاكمة شخص على فعل ما مرتين.

خامساً: اقتراح التعديل على أركان الجريمة

هناك شبهة تعارض المادتين (9) و(51) من النظام الاساسي للمحكمة مع المواد (50) و(65) و(70) و(79) من الدستور. وتؤكد مواد المحكمة المشار اليها على احقيتها في تفسير وتطبيق المواد (6) و(7) و(8)، وتعتمد هذه الاركان لاغلبية ثلثي اعضاء جمعية الدول الاطراف. كما يجوز اقتراح تعديل اركان الجرائم من جانب اطراف عدة هي: اي دولة طرف، القضاة بأغلبية مطلقة، المدعي العام، وتعتمد هذه التعديلات بأغلبية ثلثي الاعضاء من الدول.

فيما ينص الدستور في المادة (65) على حق الأمير في اقتراح القوانين والتصديق عليها واصدارها، فيما تنص المادة (70) فقرة (2) على أن المعاهدات لا تصدر الا بقانون، وحسب المادتين (65) و(79) فإن اي قانون لا يصدر الا بموافقة مجلس الامة وتصديق الأمير.

وملخص ذلك، ان التعديلات التي تقرها الدول الاعضاء في المحكمة تصبح سارية المفعول من دون عرضها على السلطات الوطنية.

سادساً: حفظ التحقيق

تنص المادة (104) من قانون الاجراءات الجزائية على حق رئيس الشرطة والامن العام بان يصدر قرارا بحفظ التحقيق نهائيا ولو كانت هناك جريمة، وبرغم النقد الشديد الذي تجابه به هذه الجريمة من قبل الفقهاء الجنائيين، الا ان ذلك يتعارض مع نظام المحكمة الدولية اذ لا يجوز حفظ الجرائم.

سابعاً: الطعن في بعض الأحكام

لا يوجد في التشريع الكويتي الاجرائي الجزائي اي وسيلة للطعن غير العادي باستثناء التمييز. اذ ان الأحكام في الجنايات تصبح باتة بعد انتهاء فترة التمييز، اما الاحكام الخاصة بالجنح فإنها تصبح باتة بعد صدورها من محكمة الجنح المستأنفة. في المقابل فإن نظام المحكمة يقرر التماس اعادة النظر.

ثامناً: تكييف بعض الأفعال كجرائم ضد الإنسانية

اكدت المادة (7) فقرة (أ) الافعال التي تعتبر جرائم ضد الانسانية، ومنها اضطهاد اي جماعة لاسباب سياسية أو عرقية أو قومية أو اثنية أو ثقافية أو متعلقة بنوع الجنس. كما نصت المادة على فعل (الاختفاء القسري) للاشخاص، وقد ينطوي هذا الغموض في المصطلحات على اشتباه في تكييف التعامل مع غير محددي الجنسية (البدون)، على انه اضطهاد، او من اختفوا بعد التحرير من الغزو العراقي على انه اختفاء قسري.

المحاكم الجنائية الدولية: الولادة... والحال اليوم

ان فكرة معاقبة مجرمي الحرب ووضع آلية لعقاب منتهكي القانون الدولي الإنساني، بدأت بمبادرات فردية أكثر منها رؤى حكومات ودول، ودفعت بها جماعات ومنظمات غير حكومية لتصبح ابرز انجازات القرن.

فقد نادى غوستاف مونييه احد مؤسسي اللجنة الدولية للصليب الأحمر عام 1872، أي بعد صدور اتفاقية جنيف عام 1864 الخاصة بمعالجة جرحى الحرب، بضرورة إنشاء واستحداث محكمة جنائية دولية لمنع مخالفات الاتفاقية والمعاقبة عليها، إلا انها لم ترَ النور برغم كل الجهود التي بذلها.

مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى

بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، وراح ضحيتها ما يقارب العشرين مليون شخص، تكاثرت الدعوات إلى ضرورة إيجاد قواعد قانونية ملزمة واتخاذ إجراءات جديدة تحول دون وقوع حرب عالمية أخرى، لذلك تمخض عن هذه الدعوات إنشاء محكمة جنائية دولية لها عدة تطبيقات، منها ما جاء في معاهدة فرساي عام 1919 بشأن تشكيل محكمة جنائية دولية لمحاكمة الإمبراطور الألماني السابق غليوم الثاني، التي لم توفق لأن الإمبراطور غليوم حصل على حق اللجوء السياسي في هولندا، ورفضت الحكومة الهولندية تسليمه حتى توفي عام 1941، وكذلك ما جاء به عهد عصبة الأمم في المادة (14) منه عام 1920 من مشاريع أخرى لم تحقق نجاحا أيضا، كذلك ما جاءت به اتفاقيتا 16 نوفمبر عام 1937، حيث تقدم الوفد الفرنسي باقتراح لإنشاء محكمة جنائية دولية، كرد فعل على الأعمال الإرهابية التي أودت بحياة ملك يوغسلافيا الكسندر، وكرد فعل على الأعمال الإرهابية التي ارتكبت ضد وزير الخارجية الفرنسي مسيو باترو في مرسيليا في أكتوبر عام 1934.

لكن نشوب الحرب العالمية الثانية افشل الوصول الى شيء ملموس، وعلى الرغم من ذلك، فإن هاتين الاتفاقيتين تبقيان بحق من الاتفاقيات التي ساهمت في تطور مفهوم المسؤولية الجنائية الدولية، واعتُبرتا فيما بعد من السوابق المهمة التي خدمت تطور القانون الدولي.

مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية

خلال فتره انتهاء الحرب العالمية الثانية، شهد العالم تطورات عدة فيما يتعلق بإنشاء المحاكم الجنائية الدولية، إذ تم تشكيل محكمة نورمبرغ عام 1945 ومحكمة طوكيو عام 1946، كذلك المحاكم المشكلة من قبل مجلس الأمن التي تشمل محكمة يوغسلافيا السابقة عام 1993 ومحكمة رواندا عام 1994، وعلى الرغم من أن المحاكم الدولية التي شكلها الحلفاء تختلف عن المحاكم الدولية المشكلة من قبل مجلس الأمن من حيث طريقة إنشائها، إذ إن كلاً من محكمة نورمبرغ ومحكمة طوكيو قد تم تشكيلهما باتفاق بين الدول المتحالفة المنتصرة خلال الحرب العالمية الثانية، في حين نشأت كل من محكمة يوغسلافيا السابقة ومحكمة رواندا بقرار من مجلس الأمن، إلا انه يلاحظ على هذه المحاكم السابقة أنها محاكم موقتة وليست دائمة، لذلك جاءت فكرة المحكمة الجنائية الدولية الدائمة التي تم وضعها موضع التنفيذ من خلال إقرار نظام روما الأساسي الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية الدائمة، ودخوله حيز التنفيذ عام 2002.

بداية مشروع المحكمة

بعد أن تم تأسيس هيئة الأمم المتحدة عام 1945، فان موضوع إنشاء محكمة جنائية دولية حاز على اهتمام الكثير من المهتمين والمعنيين بالشؤون الدولية، وأصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا في 9 ديسمبر عام 1948 طلبت بموجبه الجمعية العامة من لجنة القانون الدولي التابعة لها دراسة إمكان إنشاء جهاز قضائي دولي لمحاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم الإبادة، وبنفس الوقت طلبت الجمعية العامة من اللجنة دراسة إمكان تأسيس محكمة جنائية دولية ضمن إطار محكمة العدل الدولية.

الاختلافات بشأن موضوع إنشاء المحكمة الجنائية الدولية

تقدمت اللجنة الخاصة بمشروعها إلى الجمعية العامة، وتمت مناقشة المشروع في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1952، حيث انقسمت الآراء حول فكرة إنشاء المحكمة إلى اتجاهين: الأول، عارض بحجة أن انشاء قضاء جنائي دولي معناه انتهاك للسيادة الوطنية للدول، وأن وجودها متعلق بنشوب الحروب، واستمرارها لا مبرر له، أما الاتجاه الثاني، فكان يرى أن مفهوم السيادة بالمعنى التقليدي لا معنى لـه في ظل شبكه العلاقات الدولية، فالعلاقات الدولية أفرزت ظهور تكتلات إقليمية لها تأثيرها على مفهوم السيادة مثل الجماعة الأوروبية، وجامعة الدول العربية، وكذلك فإن الانضمام إلى منظمة الأمم المتحدة يعني في حد ذاته تنازلا عن فكرة السيادة المطلقة للدولة، حيث إن عناصر السيادة تقلصت.

إن محاكمة مجرم أمام محكمة سابقة الوجود على وجود الجريمة أكثر عدلا وأفضل من محاكمته أمام محكمة نشأت بسبب الجريمة، لان قيام المحكمة المسبق ابعد عقلية الثأر والانتقام، كما كان في محكمتي نورمبرغ وطوكيو، ومن ناحية أخرى فإن وجود المحكمة المسبق يعتبر عامل ردع للحؤول دون قيام جرائم أو التفكير في ارتكابها.

ونتيجة لتعارض الآراء، تبنت الجمعية العامة قرارا في 5/12/1952، بموجبة انشئت لجنة جديدة عام 1953 تتكون من ممثلي 17 دولة، وحددت مهامها فيما يلي:

1 - دراسة النتائج المترتبة على تأسيس محكمة جنائية دولية، والبحث عن الطرق التي يمكن بموجبها تأسيس مثل هذه المحكمة.

2 - دراسة العلاقة بين هيئة الأمم المتحدة والمحكمة المقترح إنشاؤها.

3 - إعادة النظر في مشروع النظام الأساسي للمحكمة المقترحة.

الا انه كان هناك من يشكك من الدول في جدوى قيام مثل هذه المحكمة، ما لم يسبق ذلك اتفاق الدول على تعريف كلمة «العدوان».

وعلى الرغم من أن تعريف العدوان قد تم انجازه أمام الجمعية العامة في 14/12/1974، إلا أن موضوع إنشاء المحكمة الجنائية الدولية بقي معلقا ولم يتم النظر فيه.

في حين يلاحظ ان مشروع إنشاء المحكمة الجنائية الدولية قد أثير من جديد، وذلك عندما ناقشت لجنة القانون الدولي مشروع قانون الجرائم المخلّة بسلم الإنسانية في الفترة من 1986-1989.

و يلاحظ ان مشروع إنشاء محكمة جنائية دولية قد أثير بشكل أعمق، عندما اقترح وفد دولة ترينيداد وتوباغو في عام 1989 على الجمعية العامة للأمم المتحدة إنشاء محكمة جنائية دولية، بهدف مكافحة ما اعتبره الوفد إحدى الجرائم الدولية المقررة حديثا، وهي تجارة المخدرات، ويعد هذا الاقتراح الذي لم يكن جديدا بالنسبة للأمم المتحدة بمنزلة استجابة لأعمال اللجنتين الخاصتين اللتين انشأتهما الجمعية العامة لوضع مشروع نظام أساسي لمحاكم جنائية دولية في عامي 1951 و1953.

واستجابة لهذا الاقتراح وجهت الجمعية العامة في قرارها عام 1989 طلبا إلى لجنة القانون الدولي لدراسة موضوع إنشاء محكمة جنائية دولية، للنظر في جرائم الاتجار غير المشروع بالمخدرات عبر الدول، وفي الجرائم الدولية الأخرى التي تتقرر مستقبلا في قانون الجرائم الدولية.

وبعد انتهاء هذه اللجنة المتخصصة من أعمالها وعقب عرض تقرير هذه اللجنة عن أعمالها على الجمعية العامة، أصدرت الأخيرة قرارها بتاريخ 11/12/1995 الذي يقضي بتشكيل لجنة تحضيرية لإنشاء محكمة جنائية دولية، تكون مفتوحة العضوية أمام جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وخلال هذه الفترة أصدرت الجمعية العامة بتاريخ 15 ديسمبر عام 1997 قرارا تحت عنوان «إنشاء محكمة جنائية دولية» لتقرر فيه قبولها بالعرض الذي تقدمت به حكومة ايطاليا، من اجل استضافة مؤتمر الأمم المتحدة الدبلوماسي المعني بإنشاء محكمة جنائية دولية، والذي تقرر عقده في الفترة من 15 يونيو إلى 17 يوليو عام 1998،ثم اجتمعت اللجنة التحضيرية في الفترة من 16مارس إلى 3 أبريل عام 1998 لتنهي بذلك مشروع الاتفاقية.