Ad

في جميع الأحوال فإن الروح الوطنية تعد قيمة خلقية سامية، منذ بدء الخليقة وإلى قيام الساعة، وهي تكمن في حب الإنسان الفطري لمسقط رأسه، أي المكان الذي ولد فيه وترعرع، وفيه عاش أبوه وأجداده، وغيرته عليه، وحرصه على الارتقاء به وإنهاضه، والاستعداد التام للذود عنه وحمايته من أي معتد غاصب، واعتباره دوماً الملاذ الأخير.

قالت الممرضة الإنكليزية أديث كافيل قبل أن يعدمها الألمان رمياً بالرصاص لدورها في معالجة الجرحى ومواساتهم ومساعدة الأسرى الفارين من وجه النازي في الحرب العالمية الأولى: «لقد أدركت أن الوطنية ليست كافية، المطلوب هو ألا نكره وألا نشعر بروح العداوة إزاء بعضنا البعض». ويقف الدكتور جونسون صاحب أشهر المعاجم الإنكليزية، موقفاً أكثر تشاؤماً، حين يعتبر أن «الوطنية هي الملاذ الأخير للأوغاد».

لكن هذا التعبيرات التي جاءت في لحظات خاصة لم تبين على الوجه الأكمل معنى الوطنية، ولم تعطه قدره ومكانته في قلب الإنسان وعقله، ابتداء من «الوطنية المحلية» التي قد لا تكون أكثر من مجرد ضيق أفق، لأنها تنطوي على تعصب شديد للقبيلة والعشيرة والعائلة، وانتهاء بالوطنية الجامعة التي تتعدّى حدود الانتماءات الأولية لتشمل «الدولة» الحديثة بأسرها.

ولا نكاد نلمح كلمة وطن في شعر العرب الأقدمين، والشعر كان كتاب حياتهم، إلا نادراً، ومنها ما أنشده رؤبة بن العجّاج:

«أوطنْت وطْنا لم يكن من وطَني ... لو لم تكن عاملها لم أسكن».

وكان الوطن عند العرب لا يعدو كونه السكن وموطئ القدم، وهو ما يتأكد من تعريف أبي البقاء الكفوي للوطن في كتابه الأثير «الكليات» بأنه «منزل الإقامة. والوطن الأصلي مولد الإنسان أو البلدة التي تأهل فيها. ووطن الإقامة هو البلدة أو القرية التي ليس للمسافر فيها أهل ونوى أن يقيم فيه خمسة عشر يوماً فصاعداً، ووطن السكنى هو المكان الذي ينوي المسافر أن يقيم فيه أقل من خمسة عشر يوماً».

أما العرب المحدثون فنقلوا المصطلح إلى مستوى أعمق من مجرد البيت والديار، وأداروا حوله جدلاً لايزال قائما حول منشأه ومبتغاه، فوجدنا من يقبله ويطوره مثل الإمام محمد عبده الذي عرفه بأنه «المكان الذي للمرء فيه حقوق وواجبات سياسية»، بل هناك من أصبح الوطن في نظره هو الأولى بالولاء والانتماء والإخلاص، مثل الشاعر والفيلسوف اليمني الكبير عبدالله البردوني الذي يقول في عبارة دالة: «تذهب الزعامات وتبقى الأوطان».

في المقابل وجدنا من يتحفظ على المصطلح مثل عبدالعزيز جاويش الذي اعتبر أن الوطنية مصطلح أجنبي، انتقل إلى الشرق من العلوم الغربية التي تنافح عن المدنية الحديثة، بل هناك من يؤكد تشوّه المصطلح في ذاكرتنا ومخيلتنا الجمعية مثل المفكر التونسي عادل لطيفي الذي يقول: «لو عدنا إلى جذور تبلور هذا المفهوم في الحالة العربية لوجدناه مرتبطاً إلى حد كبير بالمعاناة المتولدة عن هيمنة الاستعمار، أي سلب الأراضي والاعتقالات والتعذيب والقتل، وكل الحالات المرتبطة بتجربة الاحتلال والمؤسسة على نكران حق وجود الآخر، على عكس الحالة الغربية التي كان فيها وعي الإنسان بالوطن امتداداً لوعي الإنسان بذاته».

وقد ارتبطت الوطنية في حياة العرب المعاصرين في الأغلب الأعم بالأقوال أكثر من الأفعال، أو بالتنظير أكثر من الممارسة، وبالعواطف أعلى من العقل، وبالأيديولوجيات قبل الفهم الموضوعي والواقعي، ولفتت هذه المسألة انتباه كاتب بمكانة تركي الحمد فرأى أننا في العالم الثالث عامة نتحدث كثيرا عن الوطن والوطنية، ونملأ الأسفار الضخمة عن معناها ومبناها، بينما يمارس الناس في البلاد المتقدمة وطنيتهم من دون أن يفكروا في هذا أو يعلنونه ليل نهار. ويرى أن صانع الأحذية لو أتقن عمله فهو أكثر وطنية من زعيم لا همّ له في خطبه سوى الوطنية، وأب يزرع قيمة العمل في ابنه هو أكثر وطنية من وزير يتحدث عن الوطن دوماً.

ورغم أن الروح الوطنية مخبوءة بين جوانح المرء، ولا يحاسب الفرد عن غيابها إلا إذا اتخذ من السلوك ما يقر بذلك، أو ما يضعه في تعارض مع مقتضيات الوطنية، فإن الدول جميعها تريد من مواطنيها أن يظهروا هذه الروح حتى لو كانت مصطنعة، مثل ما فعلته منظمة MPAC حينما وجهت المسلمين الأميركيين إلى الخروج من بيوتهم للاحتفال بالرابع من يوليو «يوم الاستقلال» في وقت كانوا فيه منقوصي المواطنة، ومغبونين من سوء المعاملة بعد أحدث 11 سبتمبر 2001.

لكن في جميع الأحوال فإن هذه الروح تعد قيمة خلقية سامية، منذ بدء الخليقة وإلى قيام الساعة، وهي تكمن في حب الإنسان الفطري لمسقط رأسه، أي المكان الذي ولد فيه وترعرع، وفيه عاش أبوه وأجداده، وغيرته عليه، وحرصه على الارتقاء به وإنهاضه، والاستعداد التام للذود عنه وحمايته من أي معتد غاصب، واعتباره دوماً الملاذ الأخير، ليس للأوغاد كما قال جونسون، ولكن للأسوياء، ورحم الله أحمد شوقي الذي أنشد في بيت خالد من الشعر:

وطني لو شغلت بالخلد عنه ... نازعتني إليه في الخلد نفسي

* كاتب وباحث مصري