آخر وطن: كفى عبثاً!
يدّعي بعض الشعراء العاميين أن النقد للقصيدة العامية غائب، وأنه لا يوجد نقد حقيقي يواكب تطور هذه القصيدة ويتماهى معها، وأن أغلب ما يكتب عن القصيدة العامية من قراءات ليس سوى آراء وانطباعات أساسها ذائقة كاتبها ولا ترتقي إلى مستوى النقد، ولا تمت بأي شكل من الأشكال إلى أصوله العلمية والمنهجية، ويدّعي من يؤمن بهذا الرأي أن من يُطلق عليهم «نقاد» في ساحة الشعر الشعبي ليسوا إلا هواة يحاولون الترويج لذائقتهم في غياب النقد الحقيقي المبني على أسس معرفية، كما أن بعض هؤلاء «النقاد» يحاول أن «يتأستذ» مستغلا بساطة أغلبية المتلقين وقلة وعيهم الشعري.
أنا أعتقد أن معظم ما يدعيه هؤلاء صحيح، والدليل أنك قد تقرأ كتابا يجمع بعض القصائد العامية مصحوبة ببعض التعليقات والآراء في محاولة هزيلة وبائسة أحيانا لتحليلها، بل انك قد تجد كتابا يجمع قصائد لا يمت بعضها إلى بعض بصلة، وتجد أن الناقد العظيم ينظر إلى هذه القصائد على اختلافها في كل شيء تقريباً، ينظر إليها من المنظور نفسه، كما قد تجد أحد هؤلاء النقاد يسهب في سرد جماليات قصيدة ما، وتكتشف أن القصيدة أساسا منقولة بشكل خاطئ، وأنا هنا لا أتحدث عن أخطاء مطبعية -مع وجودها-، ولكن أتحدث عن خطأ في بناء القصيدة مثلا، أو تسلسلها، كأن الناقد العظيم قد استدعى هذه القصيدة من الذاكرة، أو كأنه أجرى بعض التعديلات التى رأى أنها ضرورية لتتماشى مع السياق العام لأسلوبه النقدي، علما بأن هذا النقد يدوّن في كتاب وليس في مقابلة صحافية أو لقاء تلفزيوني، فنلتمس للناقد العذر بسبب خيانة الذاكرة، وليس خيانته هو! أنا في الحقيقة لا أعلم لماذا لا يكلّف هذا الناقد نفسه عندما يهم بإتحافنا برؤاه النقدية حول قصيدة ما، وأن يوثق هذه الرؤى في كتاب، لماذا لا يأخذ هذه القصائد من شعرائها، وليس من ذاكرته، أو ذاكرة الرواة، لاسيما أن هؤلاء الشعراء على قيد الحياة، ولم ينتقلوا إلى رحمة الله بعد! إذا كان هذا الناقد قد فعل ذلك جهارا نهارا، وعلى مرأى من الكل، وفي حياة الشعراء الذين تناول قصائدهم في النقد والتحليل، فما عساه يفعل إذا ما رحل هؤلاء الشعراء، وبقي هو شاهدا على إبداعاتهم؟!! قد يقول قائل ما هي إلا مجرد اجتهادات، للمجتهد فيها جزاء اجتهاده، وأقول هذا صحيح، ولكن لابد لهذا الاجتهاد أن يكون مصحوباً بالجدية التي تجعلنا نحترم هذا الاجتهاد، حتى وإن أخطأ، أما أن تصبح المسألة مجرد سلق، وضحك على الذقون، وأستذة على الفاضي، ولمّ «بيزات» فهذا ما يجعلنا نستشيط غضبا، ونعلن براءتنا مما يفعلون! في نظري إن تصنيّف هذه النوعية من الكتابات، هل هي نقد؟ أم مجرد قراءات انطباعية تعبّر عن ذائقة الكاتب، وفهمه هو للشعر، ليس هو الإشكالية الكبرى، فالحقيقة أن داخل كل منا ناقد بطريقة ما، حتى إن كان هذا النقد لا يخضع لمدارس النقد المعروفة وطرقها المنهجية، ففي النهاية يبقى النقد حاسة ابتكرها الإنسان لاكتشاف الجمال في الأعمال الإبداعية، ومادام الجمال هو الغاية، فكل منا له مقاييسه الخاصة ومعاييره التي تعبّر عن رؤيته الجمالية، وهذه أبسط حقوقه، ولكن المزعج هو «تسويق» هذه النظرة الخاصة جداً على أنها المعيار الذي يجب علينا أن نتبعه في رؤيتنا الجمالية، خصوصا عندما تكون رؤية هذا الكاتب مصابة بالتشويش والارتباك وعدم الجدية. مع خالص مودتي للأستاذ العزيز: علي المسعودي!!