صورة المجتمع المدني بين التصادم والتواؤم
إن مناقشة الإشكالات بحرية وجرأة تستهدف إخراج مصطلح المجتمع المدني من التأييد والرضا واليقينية، وكذلك من السخط أو التنديد أو الاتهام، ووضعه في مكانه الذي يستحقه كأمر تاريخي اجتماعي ديناميكي يمثل طاقات كامنة لدى فئات واسعة وقطاعات مهنية متنوّعة ليُسهم في صنع المستقبل.
يبدو المجتمع المدني العربي «مريبا» أحياناً لاسيما من جانب الفلسفات والتيارات الشمولية والمحافظة في السلطة أو خارجها، وإنْ كانت تسعى إلى استخدامه أو توظيفه لخدمة أهدافها السياسية، وآيديولوجياتها، لكنها سرعان ما تنقلب عليه إذا تعارض مع توجهها أو رفض الانضواء تحت لوائها، لذلك لا يمكن الحديث عن المجتمع المدني بمعزل عن الدولة وتطورها ودستورها وقوانينها خصوصاً لما تمثله من جدلية مع المجتمع، فكلاهما يرتبط بدرجة التحديث السياسي الاقتصااجتماعي، إذ إن ظهور الدولة ونشأتها بالمعنى المعروف، وتضخّم أجهزتها الإدارية وتعدد مسؤولياتها وتنوّع بيروقراطيتها، ترك تأثيره في المجتمع المدني إيجاباً أو سلباً، ففي البلدان المتقدمة وصل المجتمع المدني الى دور الشريك الفعّال والمساهم الفعلي مع الحكومات في رسم السياسات، أما في البلدان النامية ومنها البلدان العربية فقد تقلّص دور المجتمع المدني طرداً مع اتساع الأجهزة الأمنية وازدياد مركزية الدولة وعسكرتها، خصوصاً في ظل محاولات الاحتواء أو الإغراء أو الإفساد أو توظيف مؤسسات المجتمع المدني ودفعها لتأخذ وجهة سياسية أو حزبية أو دينية أو طائفية، رغم محاولات مؤسسات المجتمع المدني تلّمس طريقها الخاص، ولكن ليس من دون خسائر أو صعوبات جمة أو تحريم أحياناً.ودخلت فكرة المجتمع المدني إلى الفلسفة السياسية كتعبير عن وجود علاقة بين السياسة والمجتمع، وذلك في إطار الصراع بين فكرة «الحق الطبيعي» في ما بعد فكرة «العقد الاجتماعي» بالضد من نظرية « الحق الإلهي» أي بمعيار دنيوي مدني أرضي وليس إلهياً ما ورائياً لاهوتياً.وإذا كانت الدولة نتاجاً لوجود المجتمع المدني الذي هو سابق لها وقادر على تنظيم نفسه بمعزل عنها، ولعلّه يشكّل أساس شرعيتها، فقد اتجه الأمر إلى رسم صورة المجتمع المدني التكميلي الشريك في رسم السياسات وتحديد التوجهات لاسيما إشكالية تعريفه وخصائصه خصوصاً في عالمنا العربي والعالم الثالث بشكل عام.يقصر البعض تعريف المجتمع المدني على التنظيمات والتجمعات المتنوعة للفاعليات والأنشطة المهنية مثل المؤسسات الثقافية والحقوقية والنقابات والجمعيات ومنظمات حقوق الإنسان والمرأة والطفل والبيئة والصحة وغيرها، ويتوسع البعض في هذا التعريف ليدرج الأحزاب السياسية وتنظيماتها في إطار فكرة المجتمع المدني في حين أن بعضاً آخر يعتبر هذه الأحزاب تستهدف الوصول الى السلطة، ولذلك فهو يستبعدها من دائرة المجتمع المدني، إذ كيف ستكون أحزاباً حاكمة غداً وهي تدخل في إطار المجتمع المدني، وهناك اتجاه ثالث وسطي حين يعتبر أن المجتمع المدني يضم الأحزاب قبل وصولها إلى السلطة، وهو يستبعدها حين تكون في الحكم، أي يقبلها وهي في المعارضة ويرفضها وهي على منصة السلطة.من أهم خصائص المجتمع المدني أنه مجتمع تعددي ومتعدد، وذلك يعني التنوّع والاختلاف، بل الصراع أحياناً في إطار تضامنات جزئية أو محدودة لفئات وقطاعات اجتماعية ومهنية ولعل في ذلك أحد مصادر نمو السياسة ومبرر وجودها، فالسياسة في نهاية المطاف وعلى مرّ التاريخ هي «صراع واتفاق مصالح»، والتعدد والاختلاف هو مصدر حرية وغنى وتطوير، وعكسه السكون والثبات والانكماش، وهذه حقيقة واقعة لا يمكن إغفالها أو التجاوز عليها مهما كانت الحجج والمسوّغات.إن وظيفة مؤسسات المجتمع المدني هي وظيفة رقابية، رصدية، اقتراحية واجتماعية، فهي بهذا المعنى تختلف عن الأحزاب والتكتلات السياسية، فلا تسعى إلى الوصول إلى السلطة في حين أن الأحزاب والكتل السياسية تستهدف الوصول إلى السلطة، وقد تلجأ إلى العمل السري وأحياناً تبرر استخدام العنف وسيلة لحل النزاع بينها وبين السلطة تحت مبرر استنفاد جميع الوسائل للإصلاح أو التغيير.المجتمع المدني تعبير طوعي عن إرادة الناس الحرة في قطاعات مهنية وحقوقية وثقافية وخدمية واجتماعية متنوّعة لا علاقة لها بالانتماء العائلي أو العشائري أو الجهوي أو الإرثي، إنه جهد في الفضاء العام من جانب مجموعة متفاعلة لديها مصالح مشتركة.لابدّ من الإشارة إلى أن فكرة المجتمع المدني ولدت ومعها إشكالياتها، لاسيما علاقتها بالسياسة التي يتوقف عليها حل التناقضات بين الجماعات المختلفة، ويتأتى ذلك من خلال الضغط السلمي، التراكمي، التدرجي، وليس من خلال الاستحواذ على السلطة وقهر الآخر، مثلما هي وظيفة الأحزاب التي قد لا تتورع عن استخدام العنف ضد خصومها تحت مبررات مختلفة خصوصاً عند منافستها أو عند شعورها بأنه يمكن سلب امتيازاتها. لعل مبررات هذا الحديث، هي حوار جاد ومسؤول دار في جامعة الدول العربية في القاهرة، في مؤتمر مهم، نظمته مفوضية المجتمع المدني التي يترأسها بجدارة طاهر المصري وبرعاية الأمين العام للجامعة عمر موسى وبدعم من الاتحاد الأوروبي ومؤسسة فريدريش نومان، وشارك فيه نخبة من الخبراء العرب من 16 إلى 18 يناير 2008 وذلك حين وضع حرية التجمع، التي أطلق عليها البعض حرية التنظيم في إطار تعزيز الحوار بين الحكومات والمجتمع المدني حول إصلاح القوانين.وتدخل مسألة الحق في التنظيم ضمن منظومة حقوق الإنسان المدنية والسياسية خصوصاً الحريات الأربع الأساسية، ونعني بها، الحق في التعبير والحق في الاعتقاد والحق في المشاركة السياسية وتوّلي الوظائف العامة والعليا من دون تمييز.ثلاثة اتجاهات تبرز في تقويم قضية التعاون بين الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني، وهي: الأول، يمكن أن أطلق عليه الاتجاه التصادمي أو التعارضي، وهو الذي يعتبر الحوار مع الحكومات مجرد وهم أو ضياع للوقت، إذ سرعان ما سيتوصل الداعون إليه إلى طريق مسدود إن لم تحتوِهم الحكومات، والمطلوب هو تغيير الحكومات وليس مطالبتها بإجراء الإصلاح حسب وجهة النظر هذه!الثاني عكس الاتجاه التصادمي فهو يدعو إلى المساومة باعتبار أن الحكومات وحدها هي القادرة على تنفيذ متطلبات المجتمع المدني، فلا ينبغي «إزعاجها» أو «معارضتها»، بل الحصول على مكاسب يمكن أن تحققها عبر إقناعها وتطمينها وعدم استفزازها.أما الاتجاه الثالث، فهو اتجاه تشاركي وتصالحي حين يدعو إلى المواءمة وليس إلى المصادمة أو المساومة، وذلك عبر البحث عن شراكة حقيقية بين الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني، بحيث يتحوّل هذا الأخير إلى قوة اقتراح للقوانين والأنظمة واللوائح وليس قوة احتجاج فحسب، أي أن دوره يمكن أن يكون تكاملياً وتوافقياً وليس تصادمياً أو تساومياً، ولذلك يسعى هذا الاتجاه إلى أن يؤدي المجتمع المدني دوراً سلمياً إصلاحياً تراكمياً بعيد المدى، ولا سيما التمييز بينه وبين المجتمع السياسي خصوصاً أنه يمثل اتجاهاً مهنياً حقوقياً وليس حزبياً أو سياسياً.الثنائية التي يدعو إليها هذا الاتجاه تكاملية بين الاحتجاج والاقتراح، وبين الرفض والنقد، وبين التنوير والتغيير، بعيداً عن الثنائية التعارضية أو التساومية حين يصبح الاعتراف اقترافاً والتنوير تشهيراً، ويحل الإنكار بدل الإقرار والتدنيس مقابل التقديس. وهذا الاتجاه التشاركي والتكاملي لا يغضّ النظر عن بعض نواقص مؤسسات المجتمع المدني وإشكالاتها الفكرية والعملية، وبعض أساليبها اللاديموقراطية بل بعض الألغام والاختراقات التي توضع في طريقها.إن مناقشة هذه الإشكالات بحرية وجرأة تستهدف إخراج مصطلح المجتمع المدني من التأييد والرضا واليقينية، وفي الوقت نفسه من السخط أو التنديد أو الاتهام، ووضعه في مكانه الذي يستحقه كأمر تاريخي اجتماعي ديناميكي يمثل طاقات كامنة لدى فئات واسعة وقطاعات مهنية متنوّعة ليُسهم في صنع المستقبل ويشارك في رسم السياسات العامة، كقطاع ثالث ومن خلال نقد الخطاب السائد للسلطة والمعارضة كخيار مدني ومجتمعي لتفعيل المشاركة وضمان الحقوق الإنسانية وتأمين الحريات العامة والخاصة.إن حواراً في مقر جامعة الدول العربية بين الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني لم يكن ممكناً قبل عقد ونصف العقد من الزمان لولا التطور النسبي والعالمي بشكل خاص والذي حصل في هذا الميدان، الأمر الذي يتطلب تفعيله وتثميره وجعل الشراكة هدفاً ممكناً من خلال الحوار والتعاون الذي لاتزال، للأسف الشديد، بعض الحكومات ترفضه أو لا تعترف بأهميته!* كاتب ومفكر عربي