هم ثلاثة أصدقاء لعبوا أدواراً «نضالية» من أجل تحرير فلسطين، التي لايزال أمام تحريرها مشوار طويل... طويل، ومن أجل تحرير أقطار المغرب العربي خصوصاً الجزائر التي كانت ثورتها لاتزال في ذروتها.هم ثلاثة أصدقاء، الأول الفقيه محمد البصري من المغرب والثاني إبراهيم طوبال من تونس والثالث هو محمود المغربي والده جاء إلى فلسطين من ليبيا التي كانت تحت الاحتلال الفاشي الإيطالي وأصبحت الجماهيرية العربية التقدمية الشعبية الاشتراكية العظمى، وكانوا إحدى « ظواهر» ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وكانوا يمثلون حالة لا تؤمن بـ«سايكس–بيكو» ولا بالحدود ولا بالظاهرة القُطرية التي بقيت تتفشى وتترسخ إلى أن أصبحت على هذا النحو.
الثلاثة لعبوا أدواراً «نضالية» من أجل تحرير فلسطين، التي لايزال أمام تحريرها مشوار طويل... طويل، ومن أجل تحرير أقطار المغرب العربي خصوصاً الجزائر التي كانت ثورتها، التي تفجرت بين أيدي المستعمرين الفرنسيين في عام 1954 والتي اجترحت معجزة استعادة السيادة والاستقلال الوطني في عام 1962، لاتزال في ذروتها.
كان الفقيه محمد البصري في طليعة الذين خاضوا معركة الاستقلال بقيادة الملك محمد الخامس، وكان أحد الذين استقبلوه عندما عاد من المنفى البعيد الذي أرسله إليه الفرنسيون وأحد الذين ساهموا في تثبيت حكمه وفي انتقال أمانة الحكم إلى ابنه الحسن الثاني لكنه ما لبث أن أصبح معارضاً وغادر وطنه وتنقَّل بين دول عربية وغير عربية كثيرة وأقام في القاهرة وفي الجزائر وبالطبع في باريس قبل أن يعود إلى التراب الذي أحبه ليدفن فيه قرير العين.
وكان إبراهيم طوبال أحد رموز استقلال تونس السباقين إلى جانب الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف والوسيلة بن عمار والحبيب عاشور والباهي الأدغم ومحمد المصمودي، وعندما وقع الانشقاق الكبير بين بورقيبة وبن يوسف انحاز إلى جانب الثاني بحكم الانتماء الجغرافي حيث إن الاثنين مــن المهدية التي بناها عبدالله المهدي الذي ترك «السَّلمية» في سورية تحت ضغط عسس الدولة العباسية وخوفاً مـــن خناجر الحركة «القرمطية» وأطلق منها الدعوة «الفاطمية» التي أسست الخلافة الفاطمية والتي تحت راياتها بنى المعز لدين الله الفاطمي مدينة القاهرة، والذي كانت بغداد هي هدفه الأول، وهدف الذين خلفوه وجاؤوا بعده إلى أن جاء صلاح الدين الأيوبي من الشرق وألغى هذه الخلافة لحساب دولة بني العباس التي أصبحت مهترئة.
بعد استقلال تونس لم يجد إبراهيم طوبال له موقعاً في الدولة التي حلم بها، فالتحق بالثورة الجزائرية وبقي أحد مناضليها إلى أنْ اجترحت الاستقلال واستعادة السيادة الوطنية التي صادرها الاستعمار 133 عاماً فتزوج من فتاة جزائرية تعرف عليها في وزارة الخارجية التي كان على رأسها الرئيس الحالي الذي كان أحد كبار المجاهدين القدماء عبدالعزيز بوتفليقة، فأعطته محمد وفتاة جميلة، وأعطاه الجزائريون الجنسية الجزائرية لأن نظام رفيق دربه السابق الحبيب بورقيبة انتزع منه ومن عائلته الجنسية وجواز السفر، وأُعطي منـزلاً مـن المنازل التي جرى توزيعها على كبار المجاهدين بقي فيه إلى أن اختطفه المرض الخبيث الذي أصابه في حنجرته بسبب سجائر «الجيتان» الفرنسية التي بقي يدخنها بشراهة أكثر من أربعين عاماً.
وكان محمود المغربي قد وُلد في فلسطين ولجأ مع عائلته بعد نكبة عام 1948 إلى دمشق، وهناك درس وتعلم وتعرف على الحركة القومية وعلى بدايات إرهاصات الثورة الفلسطينية، وعلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس «أبو مازن»، وبعد الثانوي قصد الولايات المتحدة لاستكمال تعليمه الجامعي، وقد لجأت السلطات السورية إلى حرمانه من جواز سفره السوري بسبب أنشطته السياسية، وكان بعد إنهاء دراسته قد عاد إلى ليبيا للعمل في مجال النفط، فوقع الانقلاب العسكري الذي قاده العقيد معمر القذافي ومعه عمر المحيشي وعبدالسلام جلود ضد الملكية السنوسية، وأعطي «جوازاً» ليبياً وأصبح رئيس وزراء لدولة النظام الجديد إلى أن شملته التصفيات والتغييرات اللاحقة فذهب إلى لندن وأقام هناك وهو لايزال يقيم هناك.
عرفت الثلاثة وصادقتهم لكن أقربهم إليَّ كان إبراهيم طوبال الذي كانت آخر مرة رأيته فيها عندما ذهبت إلى باريس لزيارته عندما كان يستشفي من المرض الخبيث الذي لم يشف منه... وكانت آخر مرة رأيت فيها الفقيه البصري في عمان في بدايات تسعينيات القرن الماضي، حيث شجعته على العودة إلى المغرب الذي لايزال بحاجة إلى باقي ما تبقى فيه من جُهد وقد كان ذلك... أما آخر مرة رأيت فيها محمود المغربي فقد كانت في نهايات ثمانينيات القرن «الفارط» في منزله في لندن... لقد كان هؤلاء الثلاثة من نمط مختلف... لقد كنت عندما أداعب أحدهم أقول له: يا ثالث الصعاليك العرب الثلاثة!!
* كاتب وسياسي أردني