لا تقيم الديموقراطية مؤسساتها، أو تستقيم دلالاتها المفهومية في عراء الدول، أو في هوامشها اللادولتية، ذلك أنها النتاج الأبرز لمسيرة ومسار طويلين من التربية؛ والتواصل والنوازع المتشاركة، في بناء الأسس والأعمدة المتماسكة في قلب العملية التاريخية التي تدفع أو ترفع البناء الحداثي للأمة؛ نحو تصليب دولتها وإقامتها بمعية قوى شعبية ومجتمعية، حزبية أو طبقية أو قوى مجتمع مدني تكونت أو هي في سبيلها للتكوّن، تتفق في مجملها، بل تؤسس لعقد اجتماعي تاريخي يفتح أفقا واسعا أمام تبلور حياة برلمانية في مسيرة ومسار ديموقراطي طويلين، وفي القلب منها وعلى حوافها، ووسط فعاليات وتأثيرات المجتمع المدني؛ تنشأ ضرورة تنفيذ العقد الاجتماعي، ومن ضمنه تتحدد ضرورة إيجاد القانون الأساس الناظم للعملية الديموقراطية ببعديها السياسي والاجتماعي.

Ad

من هنا أمكننا القول إن قوانين الانتخاب القهرية، المفروضة وفق موازين قوى تميل لمصلحة أقلية بيروقراطية، أي تلك التي يجري إقرارها قهرا؛ دون الاحتكام إلى القوى صاحبة المصلحة الحقيقية في التأسيس لحياة ديموقراطية عملية ودائمة، تتحمل المسؤولية الأكبر في إنتاج وتكريس وضع لا ديموقراطي، سواء عبر السلطة القاهرة التي شرعته، أو عبر قوى أمر واقع محلية أو إقليمية أو دولية؛ حيث يكون الهدف منه الحجر على قوى بعينها لمنعها من الفوز أو المنافسة في إطار العملية الديموقراطية، سواء كان الأمر يتعلق بانتخابات رئاسية أو أي انتخابات أخرى برلمانية أو بلدية.

وحده قانون الانتخاب المتوافق عليه من مجموع القوى السياسية والحزبية والمجتمعية؛ وقيام عملية الاقتراع بإشراف سلطات لها اعتبارات موضوعية كجهاز القضاء المستقل المشهود له بالنزاهة وعدم المحاباة، وتحت رقابة نزيهة داخلية أو خارجية، يمكنه أن يفرز أو ينتج وضعا ديموقراطيا بمعنى ما، فما عادت الانتخابات تعني دائما أنه يمكنها أن تكون ديموقراطية بالضرورة. لهذا يحمل تعبير « ديموقراطية العملية الانتخابية» تناقضا صارخا، لجهة أن ليس كل عملية انتخابية هي ديموقراطية بالضرورة على ما أمست تنتجه انتخابات الكثير من البلدان العالمثالثيّة، وحتى في بلدان أوروبية شرقية عانت طويلا ضعفاً أو غياباً لمجتمع مدني، بينما يمكن القول إن القانون الانتخابي إن كان في جوهره ديموقراطيا، فبمقدوره أن ينتج وضعا أو حالة ديموقراطية نسبيا. وعلى العكس من ذلك فإن قانوناً انتخابياً قاهراً ومن لدن سلطة قاهرة، فهو لن ينتج سوى عملية غير ديموقراطية، خصوصاً في بلدان تشهد ضعفا مريعا أو حتى غيابا لتقاليد ديموقراطية يمكن التعويل عليها.

إن الديموقراطية لا يقاربها سوى ديموقراطيين حقا، وفي غياب هؤلاء لا يمكن بناء الديموقراطية أو استخلاص جوهرها من الواقع نفسه الذي يعاند قيامها، كما أن الديموقراطية وإذ لا تعيش حياتها الغنية بخبرات التراكم والتجربة؛ إلا في واقع يشكّل لها الحاضنة الحقيقية الفاعلة والمتفاعلة معها، فإن شكلانيتها إنما هي إشكاليتها في ظل سيادة مناهج رفضها، ولفظها في واقع مجتمعات لم تستطع الخروج من إطارات وإسارات التفكيك والتذرر السياسي والعرقي والمجتمعي والطبقي والطائفي والمذهبي، في ظل استبعاد مناهج الحداثة في مجتمعات وجدت ذاتها أمام عملية تحديث دون الحداثة والسلطة دون الدولة؛ فيما هناك تجمعات أو «مجتمعات» داخل المجتمعات ذاتها ترفض التحديث والحداثة على حد سواء، وهي ترنو إلى السلطة بكل قواها وجوارحها، بنفس القدر الذي تسعى من خلاله إلى الإعلان عمليا عن رفضها قيام الدولة، وهي تسعى إلى تنصيب سلطتها هي في قلب دولة هي بشكل ما «دولتها»؛ لا الدولة- الأمة.

لقد تكشّفت «دولة الحزب الواحد» عن دولة بدائية، فلا هي اقتربت من الحداثة التي هي مناط الوصول إلى الدولة-الأمة، ولا هي حاولت أن تقارب معادلة نشوء الدولة-الأمة في صيغتها الحداثية. وهكذا كان انفراط عقدها غير المتعاقد عليه أصلا، إيذانا بعودتها إلى الماضي؛ ماضيها البدائي، هادمة تراكمها العقدي والعقيدي على حد سواء، فلا هي قادرة أو يمكنها أن تنجح في الاحتفاظ بالدولة، ولا هي أصابت في الوصول إلى الأمة المتعددة والمغتنية بوحدتها الديموقراطية بالضرورة، تلك التي غيّبتها النزعات العصبوية وشوفينيتها القومية، وحتى الطبقية؛ مولّدة نزعات التفكيك والتفتيت والتذرر على أنواعه، عاكسة حالة من سلب الاجتماع وسلب إمكانية الوحدة، حتى إمكانية أنسنة قيم التعدد والتنوع ببعدها الوحدوي الديموقراطي الدافع نحو بناء الدولة-الأمة؛ والتي هي الناتج العصري لحداثة تاريخية؛ غيّبتها وتغيّبها ديموقراطية مغيّبة كان الأجدر أن تُخاض تجاربها وتُدرس خبرات إخفاقها، أو تلك التي نجحت أو تنجح نسبيا في بعض ديارنا العربية، ذلك أن خبرة «الجماهير» أو «الرأي العام» العربي إزاء الديموقراطية هي إما مشوهة وناقصة أو معدومة، وما بينهما ليس سوى العدم؛ عدم الاستبداد والتسلّط، وهو السائد كخبرة أو خبرات «متعاظمة» في الأذهان المهجوسة بالقمع والإرهاب، وسلطويّة ليس السلطة الحاكمة فحسب، إنما سلطويّة العديد من السلطات المتراكبة في بلادنا.

* كاتب فلسطيني