هل هناك «مسألة كردية» في سورية؟ كان هذا التساؤل عنوانا رئيسا في نقاشات سورية حول الشأن الكردي المحلي أعقبت أحداث القامشلي في مارس 2004. وقتها تطور «شغب» تلا مباراة بكرة القدم إلى مواجهة دامية بين جمهور كردي غاضب وأجهزة الأمن، تمخض عن مقتل نحو 30 كرديا. وكما لم يكن لدماء الضحايا تأثير إيجابي مباشر على السياسات الحكومية حيال الوضع الكردي السوري، لم يفضِ ذاك الطرح إلى تقدم فكري في مقاربته. فقد وجهته إرادة التقليل من شأن ما وقع، أو حصر المطالب الكردية تحت سقف أخفض من «حق تقرير المصير» الذي يفترض أن تصور «مسألة كردية» يفترضه، بدل وصف الحال وصوغ رؤية واضحة بشأنه. ليس هناك «مسألة كردية»، إذن «ما في مشكلة»!

Ad

لكن بلى، «في مشكلة». وما كان يلزم مقتل ثلاثة شبان أكراد عشية عيد النيروز (20/3) وجرح خمسة أو ستة آخرين، ثم إقدام السلطات على اعتقال عشرات الأكراد، لندرك أن هناك مشكلة يتعين حلها قبل أن «تحلنا». وما كان لشغب تلا مباراة رياضية قبل أربعة أعوام أن يفضي إلى ما سماه ناشطون أكراد «انتفاضة القامشلي» لولا احتقان متراكم ضد تمييز سياسي وثقافي يلحق بالأكراد السوريين، وتمييز تنموي تقر السلطات نفسها أخيرا أن منطقة «الجزيرة» التي يقيم فيها أكثرية أكراد البلاد تعانيه أكثر من غيرها من مناطق البلاد.

لكن في الجوهر تتمثل «المشكلة» في أن نحو %10 (مليونين تقريبا) من الشعب السوري غير معترف بتمايزه الإثني والثقافي عن الأكثرية العربية، أي بشخصيته المستقلة. فإما هو عربي وإلا فغير موجود. هنا الأساس، في تمثيل الذات، ثم في ما يترتب عليه من أشكال تمييز حقوقية وسياسية وتنموية. وأول المعالجة، تالياً، تصحيح تمثيل الذات الوطنية السورية.

وأقصد تمثيل الذات على مستويين: على مستوى الهوية وعلى مستوى المواطنة. على المستوى الأول: السوريون عرب وأكراد وآشوريون وأرمن وشركس...، مسلمون ومسيحيون وإيزيديون...، سنيون وعلويون ودروز وإسماعيليون وشيعة. هذا التنوع أورثناه التاريخ. لكن التاريخ أيضاً أورثنا كياناً سورياً جامعا، يمكن للاشتغال عليه أن يحد من مخاطر الانقسام التي يحملها العدد الثقافي الموروث. فما من شيء يوحد السكان جميعا غير وطنيتهم السورية التي لايزال يتعين تطويرها قانونياً وسياسياً ومؤسسياً وفكرياً. والسؤال الذي يطرح نفسه على هذا المستوى هو: لمن الأولوية إذا نشب نزاع بين الهويات؟ من هي الهوية السيدة؟ العروبة أم الإسلام أم السورية؟ جوابنا بكل بساطة: السورية. لأن اختيار العروبة يثير مشاعر اغتراب عند الأكراد وغير العرب، ولأن اختيار الإسلام يثير مشاعر مماثلة عند المسيحيين وغير المسلمين. وهذا غير مقبول وطنياً وإنسانياً. ففي بلد متعدد الأديان والمذاهب والإثنيات تقضي السياسة العقلية بالتركيز على القاسم المشترك العظم بين السكان، الذي هو السورية. وهذا ما يتعين على النخب السياسية والثقافية العربية المبادرة إليه قبل غيرها. فإن لم يختر السوريون العرب السورية على العروبة فلن يقدمها السوريون الأكراد على الكردية، وإذا ظل العربي الموريتاني أقرب إلى العربي السوري من الكردي السوري فسيبقي الكردي العراقي (أو التركي أو الإيراني) أقرب إلى الكردي السوري. والواقع أن السلطات السورية تقدم السورية فعلاًً على العروبة في أي نزاع، بيد أن هذا يجري كعملية سلطوية صماء ودون نقاش عام. أي أن السياسة هنا تفتقر إلى وعي مطابق لها، ما يردها محض إجراءات بلا وعي، وما يحيل الوعي انعكاساً لهوية مفروضة بلا صلة بمضمون ووجهة السياسات. وما يسهم بالخصوص في فصل السوريين العيانيين عن السورية الرسمية التي يفترض أن أي شيء تفعله هو لخير العروبة ومصلحتها.

ولا تسوقنا نحو تحويل السيادة للسورية أي اعتبارات إيديولوجية من نوع العداء للعروبة أو للإسلام، ولا أي ضرب من النزعة السورية الشوفينية («سورية أولاً»). تسوقنا إليه اعتبارات نفعية وعقلانية من شأنها أن تنعكس وحدة واستقراراً على سورية، ونفترض أن في ذلك مصلحة للعرب والمسلمين. والأسباب نفسها التي تدفعنا إلى التحفظ على أولوية العروبة أو الإسلام، هي ما يحفزنا إلى رفض مذهب «سورية أولاً». فلا نتصور حلاً لمشكلات الاندماج الوطني عل أساس «قومي»، يضع السورية ضد اللبنانية أو الفلسطينية أو العروبة (وهذا هو كل مضمون «سورية أولاً»)، على نحو ما توضع العروبة ضد الكردية أو السورية («العروبة أولاً») أو الإسلام فوق المسيحية أو السنية فوق الشيعية... والواقع أنه لا يمكن تصور حل لمشكلات الاندماج الوطني إلا بتجاوز منطق الهوية ذاته نحو منطق المواطنة، أي المساواة الحقوقية (أمام القانون) والسياسية («وراء القانون»، أي في صنع القوانين) بين السكان على اختلاف منابتهم الأهلية. فلن تسجل الوطنية السورية فرقا عن العروبة أو عن الإسلامية إن لم تكن «وطنية دستورية»، تستمد شرعيتها من المساواة بين المواطنين (وتنفتح بإيجابية على تعددها الداخلي وعلى اندراجها في محيط إقليمي ودولي متعدد بدوره).

وليس هذا محالاً. فسورية دولة قائمة فعلاً، وليس مشروعاً قد يقوم، ورغم أنها في تشكلها الراهن لا تبالي بآراء مواطنيها، فإن تحويلها إلى دولة لجميع مواطنيها يبقى أسهل من جعلها جزءاً من كيان أكبر، وأقل إيلاماً من اختزالها إلى كيانات أصغر.

ومن غير المتوقع، على أي حال، أن تظفر سورية بولاء مواطنيها الأكراد الذين تزداد مواقفهم تجذراً على غير أساس الوطنية والمواطنة: وطنية سورية تضمن مساواة في الاحترام والشخصية بين الجماعات الأهلية المكونة للمجتمع السوري، ومواطنة سورية تنسى أصول الأفراد وتضمن المساواة بينهم.

إنكار شخصية مواطنينا الأكراد ومنعهم من تعلم لغتهم وتطوير ثقافتهم والاحتفال بأعيادهم لا يتعدى عليهم وحدهم، إنما يمس في الصميم فرص مستقبل عقلاني ومتحرر لسورية.

معالجة المسألة الكردية على أساس المساواة الفردية والجمعية للسوريين ضمن وطنية سورية متجددة هو ما من شأنه أن يقطع الطريق على نشوء «مسألة سورية»، تضاف إلى مسائل «الشرق الأوسط» الكثيرة، الفلسطينية والعراقية واللبنانية، و...الكردية.

* كاتب سوري