الكرة ورأس الشعب

نشر في 25-08-2007
آخر تحديث 25-08-2007 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد

اليوم تنهض نظرية أكثر اكتمالاً لفهم التغييب العمدي للشعب عن واقعه السياسي والاجتماعي أو عن شؤونه العامة، وهي نظرية التلاعب بالعقول، فوسائل الإعلام الجماهيري تنظر إلى الجمهور باعتباره خامة قابلة للتشكيل كما يشاء مؤلفون ومخرجون وأطقم فنية تعمل على امتداد الزمن من دون توقف.

دهم الحزن الشديد جمهور الناديين الأهلي والاسماعيلي في مصر لهزيمتيهما الثقيلتين في الدورة الأفريقية، ولا شك أن الجماهير في مختلف الأقطار العربية جربت هذا النوع من الأحزان في مناسبات شتى.

ولا تشعر بهذا الحزن الجماعي بمناسبة هزيمة الحزب السياسي الذي ينتمي إليه أي عدد من الأشخاص في الانتخابات العامة، حتى في الحالات النادرة التي تدار فيها بشيء من النزاهة. ولم أجرب مع الشعب مثل هذه الأحزان الكبيرة منذ وقوع هزيمة 1967 إلا لماماً. ولذلك يقال إن الأهلي هو أكبر حزب في مصر. ولا أشك في أن هذا هو ذاته ما يقال عن نوادي العاصمة في عدد من البلاد العربية الأخرى.

هل تلفت هذه الحقيقة نظر المثقفين والنشطاء السياسيين؟

قبل هزيمة عام 1967 كتب القاص السكندري محمد حافظ دياب رواية قصيرة باسم «الكرة ورأس الرجل»، وكان يتمتع بقدر لا بأس به من الشعبية في أوساط القراء الطليعيين في ذلك الوقت. ولكن هذه الرواية التي لم تقرأ أبداً بعد ذلك إلا كتاريخ، صارت هي التفسير الرسمي لشعبية كرة القدم في مصر بين المثقفين المصريين.

الرواية تقول إن النظام السياسي ألغى رأس الناس ووضع مكانها كرة قدم مجوفة كبيرة تردد أصداء الهتافات الشعبية العالية، الصوت الوحيد الذي استمعوا إليه منذ فترة طويلة للغاية. المهم أن الشعوب لم تعد حاضرة في ساحات السياسة والاجتماع البشري والشأن العام إلا في هذه الحالة الوحيدة، وهنا لا يكتفي النظام السياسي بإخلاء الساحة لمظاهر البهجة بمناسبة الفوز بمباراة، بل يشجعها تشجيعاً حاراً للغاية، وهو أمر لا يقارن بحشد آلاف من رجال الشرطة المدججين بالأسلحة لو وقعت تظاهرة سياسية حتى لو داخل الجامع الأزهر أو جامع الزيتونة أو غيرها.

التطهر أم التفريغ

ولا أدل على هذه الحقائق من الغباب التام للاهتمام الشعبي بأهم حدث وقع في الشهر الأخير، وهو بدء مفاوضات إعلان المبادئ بين السلطة الفلسطينية والحكومة الاسرائيلية. وسوف تستكمل هذه المفاوضات في واشنطن أو مدينة أميركية أخرى في إطار دولي خلال الشهر المقبل. ولا أظن أن الاهتمام الشعبي والإعلامي سيزيد كثيراً عما قد تحظى به مباراة متوسطة لكرة القدم في أي بلد عربي. وتجسد هذه الحقيقة نظرية الروائي السكندري التي أسلفنا الاشارة لها: رؤوس الشعوب العربية صارت مثل الكرة المجوفة! فكيف نفهم هذه الظاهرة؟

الواقع أن نظرية دياب ليست مجرد رؤية أدبية، بل تنتمي لإحدى أهم النظريات في ميدان علم النفس الاجتماعي. وكان أرسطو نفسه قد أشار إلى هذه النظرية فيما يتعلق بفهم الأثر الذي تحدثه الدراما الإغريقية في زمنه أو قبل زمنه بقرنين على الأقل. ويقال لهذا الأثر «التطهر» catharsis. وبأبسط مستوياته فالتطهر يعني التحرر من فائض الانفعالات الوجدانية من خلال مشاهدة مسرحية يتوحد فيها الناس مع المواقف وأبطال وكأنهم قاموا بما قام به هؤلاء الأبطال، وانتهى الأمر بتحقيق الهدف أو النبوءة. وما أن يحدث هذا التطهر حتى يسترد الناس سلامهم الداخلي. ويترتب على ذلك أن يفقد الناس الرغبة في الفعل بأنفسهم أو لأنفسهم.

وقد يكون مصطلح «التفريغ» أكثر تعبيراً عن هذا الاستلاب الذي يتم للمواطن ليس فقط عندما يشاهد مسرحية، وأنما أيضا عندما يشاهد مباراة لكرة القدم أو حفلا غنائيا أو اليوم بالذات فيديو كليب أو مباراة إلكترونية. وقد يكون هذا هو السبب الذي يجعل المحاربين المحترفين أقل اهتماماً بكثير بالغناء والموسيقى أو المسرح والثقافة، وهم يهتمون بممارسة الرياضة وليس بمشاهدتها، لأن ما يهمهم هو الفعل المباشر أو القتال، وهو أمر يحتاج إلى حشد طاقات الانفعال كلها وليس إلى تفريغها أو التخلص من فوائضها.

بين التطهر والتعصب

غير أن هذه النظرية لا تفسر لنا مظاهر كثيرة للحياة الاجتماعية والسياسية في شتى الأقطار العربية اليوم. فأولا لا تفرغ الرياضة فائض الانفعالات بالضرورة، كما أن علاقتها بالشأن السياسي العام ليست دائما سلبية.

الفريق العراقي لكرة القدم فاز بالدورة الآسيوية وبلاده تعاني أسوأ حرب أهلية ودولية في تاريخه الحديث. ونجح الفريق في منح بلاده يوما من السعادة.

وفازت فرق رياضية ببطولات عديدة عندما كانت المجتمعات التي تنتمي إليها في أسوأ حالاتها فمنحتها شيئاً من الأمل والثقة بالنفس. وكثيراً ما تبنى الرياضيون قضايا شعوبهم وحاولوا التعبير بالإيقاع الرياضي الجميل عن رفض القبح الذي خيم على بلادهم.

ركلة واحدة قد تكفي لبث رسالة أمل، وهزة شباك قد تعيد الثقة لأمة منكوبة. ومن الأمثلة الفذة التي صورتها الأفلام السينمائية فوز عداء أميركي أسود في دورة ميونخ عام 1936، وهو ما أسقط هدف الفوهرر في إثبات نظريته الدعائية حول التفوق العرقي للبيض. واهتمت فرق الأسرى الرياضية بهزيمة فرق حراسهم من الجيش الألماني أثناء الحرب العالمية الثانية كوسيلة لتحقيق انتصار رمزي على الأمة التي استعمرت بلادهم بسهولة.

وعلى الجانب الآخر، فإن نظرية «التفريغ» أو «التطهر» لا تفسر الحماسة التي يشارك فيها الجمهور في أعمال الشغب الرياضية. ولو أن هذا الجمهور الأكثر اهتماما بحضور مباريات كرة القدم مثلا قد ارتاح نفسيا لمجرد مشاهدة مباراة لما شارك مثلاً في أحداث العنف الطائفية التى تنبثق دورياً الآن في بلاد عربية عدة.

وربما تستكمل ظاهرة التعصب نظرية «التفريغ» أو «التطهر» ولا تنافسها. فالتعصب الطائفي أو الديني قد يكون من نوعية التعصب الرياضي نفسه، وهو يتداعى بالطريقة ذاتها. وما أسهل أن نعيد تكوين سيناريوهات مسرحية شاملة ونمطية للغاية لاشتعال أحداث طائفية أو حروب دينية شعبية صغيرة بنفس طريقة تداعي المشاهد في مسرحية أو تمثيلية إذاعية. على سبيل المثال، تبدأ الأحداث دائماً بخطبة نارية على منبر يشيع فيها شيخ- يستحسن أن يكون ضريراً- الحماس في جمهور المصلين بدءاً من أكاذيب أو على الأقل إشاعات تصور الخصوم في الطائفة المقابلة، وكأنها على وشك العدوان أو الهجوم ضد الذات الطائفية المعنية، وتصور لها ما يجب أن يفعلوه كنوع من الدفاع الشرعي عن أقدس القيم والمعاني والرموز المشتركة دفاع اليوم الأخير قبل سقوط القلعة!

والفارق بين هذا الأداء المسرحي الذي يشعل الفتن الطائفية والأداء المسرحي الذى يسبب التطهر أوالتفريغ هو بكل بساطة أن المسرح الأول يمتد في الواقع من دون أسوار أو ستائر مما نعرفه عن المسارح الفنية.

القطيع المسحور

واليوم تنهض نظرية أكثر اكتمالاً لفهم التغييب العمدي للشعب عن واقعه السياسي والاجتماعي أو عن شؤونه العامة، وهي نظرية التلاعب بالعقول. فوسائل الإعلام الجماهيري تنظر إلى الجمهور باعتباره خامة قابلة للتشكيل كما يشاء مؤلفون ومخرجون وأطقم فنية تعمل على امتداد الزمن من دون توقف. ويعتقد هؤلاء جميعاً أن عليهم التعامل مع المشاهدين كقطيع مسحور يمكن تسييره الى الوجهة التى يريدونها بشرط إتقان فن السحر ذاته، وهو ما يتم اليوم ليس بالوسائل البدائية لسحرة الماضي، وإنما عبر وسائط فنية بلغت شوطاً بعيداً من النضج. وبذلك لا تكتفي هذه الوسائل بتفريغ الشحنات الزائدة من الانفعال، بل تقوم بتوجيهها نحو الخصوم «المناسبين».

والواقع أن هذا هو ما يحدث على أي حال. فمن المستحيل أن تخلع النظم السياسية رؤوس الناس وتضع مكانها كرات مجوفة. فكل شيء يفرغ لا بد أن يمتلئ بشيء ما آخر. وفي حالات كثيرة يتم ملء الكرات التي تحل مكان رأس الرجل بأفكار ونزعات تعصبية ضد البسطاء من أمثاله لا لسبب سوى الاختلاف في الديانة أو الطائفة أو القبيلة والعشيرة.

وكل ما يحتاجه الأمر في هذه الحالة هو عدد من الروايات الصغيرة التي لا يمكن إثباتها.. ولا يمكن أيضا تكذيبها، ولكنها تشعل الحماس والرغبة فى الانتصار.

* كاتب ومفكّر مصري

back to top