يبدو أن الجميع في النهاية وصلوا إلى قناعة جماعية أنهم جميعاً خاسرون، وأن المستفيد الأول «القاعدة» ومن هنا كانت «صحوة» العشائر وهم عرب سُنّة أداروا أسلحتهم نحو الجهاديين الكَذَبة، يطاردونهم ويطهرون مناطقهم منهم، وهذا هو السبب الأعظم في عودة الأمن.يبدو الرئيس الأميركي بوش في عامه الأخير في البيت الأبيض، أكثر تصميماً على ألا يغادر المكتب البيضاوي إلا وقد أنجز -للتاريخ- شيئاً من وعوده التي طالما نادى بها خصوصاً في القضايا الثلاث الكبرى التي بدأ بها ولم تكتمل بعد وهي:
1 - إقامة دولة فلسطينية والسعي إلى إنهاء كل الصراعات المتعلقة بها بما فيها قضية الجولان لتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة.
2 - نشر الديموقراطية في المنطقة باعتبارها مصلاً واقياً ضد الإرهاب.
3 - عراق ديموقراطي حر ومستقر، حليف للولايات المتحدة.
بالنسبة للقضية الأولى، دعونا -ونحن على عتبات عام جديد وفي أجواء أفراح عيد الميلاد المجيد- نأمل ونستبشر، فهناك عوامل عديدة تدعو إلى التفاؤل، والرئيس الأميركي أكثر رئيس أميركي يعني ما يقول، والأطراف الثلاثة: الإسرائيليون والفلسطينيون والعرب قد وصلوا بعد نصف قرن من الفرص الضائعة إلى قناعة ثابتة بأنه لا خيار غير السلام، وقد أصبح الرافضون لفكرة إقامة دولة فلسطينية في الجهتين أقلية، وهم إذ يمانعون فإنما يلتمسون مبرراً لبقائهم في السلطة، ولن يغني عنهم «أنابوليسهم» الإيراني شيئاً. لقد ضيّعنا فرصاً كثيرة بدءاً من قرار التقسيم الدولي عام 1948 القاضي بفكرة الدولتين، وآن لنا أن نوقف مسلسل الفرص الضائعة.
وأما بالنسبة للديموقراطية، فقد شهدت المنطقة في أعقاب اعتداءات (11- 9) دفعاً قوياً أثمر ربيعاً ديموقراطياً لكنه لم يزدهر طويلاً لعدم قابلية الأرض العربية مخصّبات الديموقراطية وهي قيم «الليبرالية» الفكرية والاجتماعية التي تشكل الغذاء الضروري لنمو شجرة الديموقراطية. لكن الربيع الديموقراطي أفرز في النهاية حراكاً سياسياً واجتماعياً كان من ثماره، حصول المرأة على كل حقوقها ووصولها إلى مناصب قيادية، وتنشيط ثقافة الحوار الداخلي نحو إعادة النظر في المناهج والخطاب الديني وقبول الآخر.
أما بالنسبة للقضية الثالثة «العراق» فإن الأخبار السعيدة تقول بعودة ليالي السهر إلى بغداد، وقد بدأت العائلات تبارح منازلها للتجوال في شوارع العاصمة وأسواقها التي عادت تكتظّ بالزبائن كما استأنفت المطاعم و«الكافيتريات» نشاطها حتى بعد منتصف الليل، وحتى «الفلوجة» التي كانت معقل الإرهابيين استعادت حياتها الطبيعية نتيجة للتحسن الأمني وانخفاض مستوى العنف -نسبياً- أخيراً، ولكن لنعد إلى القصة من بدايتها، لقد كان تخليص العراقيين من أبشع نظام قمعي عرفه التاريخ الإنساني عملاً إنسانياً نبيلاً ساهم فيه الخليج بكل إمكاناته مع التحالف الدولي بقيادة أميركا -كان لقطر النصيب الأوفى في التمكين- كان تحرير العراق من كابوسه الطويل مصلحة خليجية في المقام الأول فضلاً عن أنه مصلحة عراقية ودولية بل يخيل لي أحياناً أن أميركا ما أزاحت جار السوء إلا لإثبات مصداقيتها لحلفائها الخليجيين، وتكبّدت في ذلك التكاليف الفلكية غير خسائر أبنائها، والدرس الذي يجب أن تتفطّنه إيران هو أن «أمن الخليج» خط أحمر لا يمكن لأميركا والدول الكبرى أن تسمح بالمساس به. لقد حاول الرئيس الإيراني (نجاد) أن يبيع أوهام المظلّة الأمنية في القمة، لكن هيهات! من يستبدل الأدنى بالأعلى ولا يمكن للخليجيين أن يأمنوا جاراً تحكمه أهواء خيالية يهددّهم ويتوعّد بهم عند أدنى خلاف، ولا يمكن تطوير العلاقة بالقفز على قضية الجزر والبرنامج النووي. نعم إزالة نظام صدام مصلحة خليجية، فلو كان قائماً ما كان بوسع الخليج أن يأمن ويستقر ويزدهر وينعم بما هو فيه الآن من مظاهر الحياة الراقية.
لقد كان الخليج قلقاً مهدداً، ومن يقرأ كتاب عبدالله بشارة الضخم يتأكد، إذ يقول بشارة عن قمة -بغداد 1980- بعد توقيع السلام المصري-الإسرائيلي، تبنّى العراق موقفاً حاداً من القاهرة توّج في قمة عربية طارئة في بغداد، جمّد فيها عضوية مصر ونقل مقر الجامعة إلى تونس، وشهدت قمّة بغداد أجواءً كريهة موجّهة ضد دول الخليج لدفعها نحو قبول القرارات التي تريدها بغداد وتعرّضت الوفود الخليجية لمعاملة سيئة فيها ترهيب وتهديد، وأرسلت إلى غرفهم أوراق تحمل عبارات الانتقام في حالة التساهل وتبنّت المجموعة المتطرفة أساليب الابتزاز، وسيطرت على المؤتمر عمليات التجسّس والملاحقة من دون اعتبار لكرامة قادة هذه الدول ومكانتهم.
ويكشف بشارة عن أهم سبب لقيام مجلس التعاون فيقول «أعتقد أن المبادرة بالتوجه لقيام كيان خليجي واحد يوفّر لدول الخليج اتخاذ مواقف موحدة، جاءت من استياء تولّد مع قادة الخليج من الأساليب غير الأخلاقية التي اتبعتها عواصم (الحدة) لتأمين الموافقة الخليجية على البرنامج الذي وضعته بغداد ضد مصر». وعودة إلى موضوع العراق والتحسن النسبي للأمن، أقول: حسناً فعلت أميركا بتحرير العراق من الكابوس الذي جثم على صدور العراقيين طويلاً، وفعلت خيراً، إذ لم تستمع إلى تحذيرات بعض قادة العرب عن فتح أبواب جهنّم، وكانت محقّة إذ تجاهلت نصائح الأوروبيين المذعورين الذين يقولون كثيراً ولا يفعلون شيئاً.
لكن -أيضاً- يجب أن نقول إن أميركا بعد التحرير، ارتكبت أخطاء فاحشة فلم تحسن قراءة الوضع العراقي ولم تتفهم الموازين النسبية لمكوناته الطائفية والعرقية وتصرفت بمنطق القادم للانتقام من الذين ساندوا النظام السابق أو استفادوا منه فتورطت -وبغباء مدهش- في جملة من القرارات السيئة، منها: حلّ الجيش وتفكيك الأمن والشرطة والاستخبارات، وكل مؤسسات النظام والقانون، ومن تلك القرارات الغبية -أيضاً- ما يسمى بقرار أو قانون «اجتثاث البعث» إذ كان بمنزلة سيف مصلت على رقاب المواطنين، ولم يجد هؤلاء ومن أجل خبزهم اليومي إلا الارتماء في أحضان الإرهاب، وليكونوا شوكة في حلق المحتل، وقد كان (علاوي) رئيس الحكومة المؤقتة التي تسلمت السيادة عن الحاكم المدني الأميركي السابق للعراق (بريمر) محقاً في رفضه لهذا القانون رغم تعرضه لهجوم رخيص، فأبسط قواعد المواجهة تقول: إنك إذا لم تستطع أن تحيّد خصمك فلا تفتح على نفسك عدة جبهات في وقت واحد. صحيح أن أميركا أوفت بالتزاماتها وتعهّداتها، فقد حددوا موعداً لنقل السلطة وفعلوا وقالوا: الانتخابات في موعدها وصدقوا، ووعدوا بإسقاط الديون العراقية فنجحوا، كما كذبوا كل الأباطيل والهراء الطويل عن الخطط والأجندة الخفية والأطماع الأميركية في النفط العراقي وعن تقسيم العراق وتغيير خريطة المنطقة لخدمة إسرائيل، بل لم يصرّوا على مجرّد الاحتفاظ بقواعد دائمة في العراق، فقد صرحت المتحدثة باسم البيت الأبيض -دانا بيرنيو - أخيرً بأن أميركا لا تملك مشروعاً لإقامة قواعد عسكرية في العراق، وأما توقيع -إعلان النوايا- بين بوش والمالكي فمجرّد تمهيد لاتفاق استراتيجي يجعل العراق فاعلاً في حماية المنطقة من الإرهاب، ويُخرجه من البند السابع للأمم المتحدة المفروض عليه منذ عام (1990) بسبب غزو العراق للكويت، ليجعل من العراق دولة ذات سيادة كاملة. والإعلان في النهاية ليس معاهدة بل مجموعة مبادئ غير ملزمة. والسؤال الآن: إذا كان كل ذلك صحيحاً، وإذا كانت النيّات الأميركية إيجابية تجاه العراقيين، فلماذا تمكّنت «القاعدة» من العراقيين؟ مرجع ذلك في تصوري إلى أنه لا يكفي حسن النوايا، فالطريق إلى الجحيم محفوف بالنوايا الحسنة، ولا تُجدي النيّات مع ضعف الكفاءة الإدارية والسياسية الأميركية في العراق، إذ خلقوا بقراراتهم السيئة مناخاً ملائماً لاحتضان الإرهابيين، لأنك عندما تهمش مكوناً أساسياً من مكونات المجتمع العراقي وهم «العرب السنّة» وتجعلهم يشعرون -إن حقاً أو باطلاً- بالغبن من جراء تغيير الوضع وانقلابه بعد أن كانوا أصحاب السيادة والامتياز تصبح المعادلة الأمنية مختلة وليست لمصلحتك، والجسم الطبيعي للمجتمع يفقد مناعته ويصبح عنده القابلية لغزو فيروسات التطرف والإرهاب، وهكذا انقلب الوضع العراقي وبلغ من السوء ما جعل البعض يترحم على النظام الاستبدادي السابق.
وكان من إفرازات الوضع المحتقن أن «العرب السنّة» راهنوا مراهنات خاطئة نكاية بالمحتل ومَنْ تعاون معه فأفسحوا ديارهم وبيوتهم لمن جاء تحت شعار «مقاومة المحتل وأعوانه» ويبدو أن الجميع في النهاية وصلوا إلى قناعة جماعية أنهم جميعاً خاسرون، وأن المستفيد الأول «القاعدة» ومن هنا كانت «صحوة» العشائر وهم عرب سُنّة أداروا أسلحتهم نحو الجهاديين الكَذَبة، يطاردونهم ويطهرون مناطقهم منهم، وهذا هو السبب الأعظم في عودة الأمن، لقد أصبحت جماعات الإرهاب مجاميع هاربة لا همّ لها الآن إلا استهداف زعماء العشائر قبل الهجمات الإرهابية، نفّذت إحداها «انتحارية» يضاف إلى ذلك عوامل أخرى ساعدت في تحسين الوضع الأمني، منها: حصول تطوير في سياسة دمشق إزاء عبور المقاتلين بعد «أنابوليس» واطمئنانها إلى أن المطلوب تغيير السلوك لا النظام، وكذلك حصل تغيير في الموقف الإيراني من دعم المسلحين، إذ أدركت إيران أنه لا مصلحة في إضعاف حكومة المالكي وقد يتحوّل الأمر إلى صراع شيعي-شيعي، وأيضاً تمّ تحجيم ميليشيات الصدر إضافة إلى كثافة القوات في الشوارع... ولكن كل هذه العوامل المخففة -وقتية- ويمكن أن تنقلب إذا لم تبادر الحكومة العراقية إلى إعلان خطة شاملة للمصالحة الوطنية، يكون من عناصرها: العفو الشامل للذين أخطأوا، وإطلاق سراح المسجونين، وأيضاً وهو الأهم المسارعة إلى دمج شامل للذين انخرطوا في الماضي مع المتمردين في الوظائف الحكومية والجيش والشرطة من غير ملاحقتهم ومحاسبتهم... يجب أن يكون شعار العراق الجديد: «عفا الله عما سلف» للمخطئين... و«اذهبوا فأنتم الطلقاء» للمسجونين... لنبدأ صفحة وطنية جديدة... هل نفعل؟ هذا أمل.
* بالمشاركة مع جريدة «الوطن» القطرية كاتب قطري