Ad

الثقافة تمثل الوعاء الذي يمكن أن تزدهر فيه التنمية، وهي القدم الثانية التي يمكن للمجتمع أن يسير عليها على طريق التقدم، والثقافة والتنمية عنصران يكمل أحدهما الآخر، والحق في الثقافة يمهّد ويتساوى مع الحق في التنمية الذي أقرّته الأمم المتحدة في عام 1986 باعتباره حقاً جماعياً للشعوب والجماعات وحقاً فردياً للأشخاص والأفراد.

هل تشكل «الخصوصية» حاجزاً أمام الثقافة العامة المكوّنة للهوية لاسيما بمشتركاتها الإنسانية، أم أنها عنصر تفاعل وإغناء وتطوير لتدعيم المعايير الإنسانية المشتركة؟ والخصوصية إذ تعتمد التنوع الثقافي، والديني، والسياسي، والتاريخي، ونمط الحياة الاجتماعية لمجتمع ما، أو جماعة قومية أو دينية أو لغوية، فإنها تعني العقلية والتقاليد بين شعوب وبلدان، وتفاعل حضارات وثقافات وأمم وأقوام وتكوينات، وهي بقدر تناغمها مع الفكر الإنساني وانفتاحه عليه، تستطيع التعبير على نحو أوضح عن تميّزها وتفرّدها وخصائصها، والعكس صحيح أيضاً كلما استغرقت في خصوصيتها سارت باتجاه العزلة والانكفاء، وهكذا فإن فكرة الحقوق الثقافية، مثلما هي فكرة حقوق الإنسان، تكون قد حيكت من نسيج الفكر الإنساني، ومن مصادره المتنوعة.

وبهذا المعنى فالخصوصية لا تعني «الانغلاق»، أو التصادم مع الحضارات الأخرى، أو الارتياب منها بل التعايش معها والتفاعل والتواصل من خلال المشتركات الإنسانية، كما أن الحداثة والتواصل الحضاري لا يعنيان قبول منطق الوصاية والتبعية الفكرية والثقافية للآخر، فالتعايش والتبادل الثقافي لا يبرران الاستتباع، أو ازدواجية المعايير، أو الانتقائية في ما يتعلق بقضايا الأقليات وخصوصياتها الوطنية والقومية والدينية والثقافية، وليس هناك من مبرر لتجاوز السياقات التاريخية والثقافية لحضارات أمم وشعوب وإنكار دورها بحجة تعميم «الموديل»، أو لسيادة نموذج فكري وسياسي واقتصادي واحد، بما فيها للقوى القومية الكبرى أو الدين والمعتقد السائد.

إن الانقسام الحاد السابق، الذي بلغ ذروته في عهد الحرب الباردة لم يُلغَ، خصوصاً في بعده الفكري، وإن اختلف في شكله وسياقه، وإنْ انفتحت بعض القنوات أمامه، ولكن ثمة شكوك وحواجز ومعوقات مازالت كبيرة، ومع ذلك ففي عالم اليوم لم يكن بالإمكان الحديث عن ثقافة واحدة مهيمنة في دول متعددة التكوينات والثقافات ومرجعيتها، من دون اعتراف بالمذاقات الخاصة الثقافية والقومية والإثنية والدينية واللغوية وغيرها، ورؤية خاصة للألوان الثقافية والدينية، واعتراف بالانتماءات المتنوعة لأنماط سلوك وحضارات وثقافات وتكوينات اجتماعية وسكانية.

إن ما يجمع التكوينات المختلفة، ودرجة تفاعلها، وتأثيرها المتبادل في السياق الإنساني الذي يشكل مرجعية جامعة هو درجة تنوّعها، فهي ليست الوحيدة أو النهائية لخطاب مازال يعترف بالكثير من الخصائص الثقافية والحضارية المختلفة.

ومهما قرر البعض اختيار طريق العزلة، أو فرض على نفسه ستاراً حديدياً، فإنه لن ينجو من رياح التغيير، بعد أن تحوّل العالم إلى «قرية عالمية»، ولا يمكن لأحد إدارة الظهر عن الاستحقاقات العلمية والتكنولوجية الماثلة في ظل ثورة الاتصالات والمعلومات وانفتاح السوق، ولعل سؤال الخصوصية والعالمية كان قد واجه مؤتمر فيينا لعام 1993 بعد مؤتمر طهران لحقوق الإنسان عام 1968، ولذلك يصبح احتجاز «الثقافة الخصوصية» في ظل العولمة أمراً يكاد يكون مستحيلاً، فهي تتأثر وتؤثر في مجرى الحقوق الثقافية العالمية.

وقد أكد مؤتمر فيينا هذا التوجه حين أشار إلى أن «جميع حقوق الإنسان عالمية، وغير قابلة للتجزئة، ومترابطة ومتشابكة» وهكذا هي الثقافة دائماً وهذا يعني في ما يعنيه التأكيد على الخصوصيات الوطنية، والخلفيات التاريخية والثقافية والدينية، في إطار من الاعتراف والتعايش والسلام، وليس إهمالها أو التنكّر لها، كما أشار مؤتمر فيينا إلى واجب الدول، بغض النظر عن نظامها الاجتماعي، احترام هذه الحقوق، التي تعني التنوّع في إطار الوحدة.

الثقافة تمثل الوعاء الذي يمكن أن تزدهر فيه التنمية، وهي القدم الثانية التي يمكن للمجتمع أن يسير عليها على طريق التقدم، فالثقافة والتنمية عنصران يكمل أحدهما الآخر، والحق في الثقافة يمهّد ويتساوى مع الحق في التنمية، الذي أقرّته الأمم المتحدة في عام 1986 باعتباره حقاً جماعياً للشعوب والجماعات وحقاً فردياً للأشخاص والأفراد.

أخلص إلى القول إن الإقرار بالتنوّع الثقافي والديني والإثني هو إقرار بواقع أليم رغم محاولات الإنكار والجحود الطويلة، ويترتب على هذا الإقرار الاعتراف بحقوق الأقليات تلك التي أقرّتها شرعة حقوق الإنسان الدولية.

ومن التجربة العملية فإن ثمن التنكّر وادعاء الأفضليات ومحاولات التسيّد كان باهظاً على حساب التنمية وتعزيز الديموقراطية، وساهم في تفكيك الوحدة الوطنية بدلاً ادعاء المحافظة عليها وهدّد الأمن الوطني بدلاً من حمايته واستخدمته القوى الخارجية وسيلة للتدخل وفرض الإرادة بحجة الدفاع عن حقوق الأقليات بسبب هدرها وإنكارها، بل إنه ساهم في تبديد الأموال خصوصاً على النزاعات العسكرية والحروب الأهلية بدلاً من استعادة الحقوق وتحرير الأرض، والسير في طريق التنمية!!

* كاتب ومفكر عربي