Ad

أغلب الظن أن محمود درويش وصل إلى قناعة بأن عسف الاحتلال وإجرام اسرائيل أهون من العيش مع محترفي القتل والذبح والإلغاء والردة إلى الغابر من العصور.

لا تعكس الحملة التي تعرض لها الشاعر محمود درويش من فئات فلسطينية متعددة، إثر عودته إلى حيفا من أجل أمسية شعرية، موقفاً سياسياً تقليدياً رافضاً للتطبيع مع العدو أو وجهة نظر معروفة تستنكر إقامة أي نشاط في أرض محتلة أو في دولة عدو، بل هي فعلياً حملة تخوين منظّمة تعبر عن ذهنية تستدعي إعادة النظر في النظر إليها وتدفع إلى التفكير ملياً في الأولويات.

لماذا يتهم شاعر فلسطيني جعل من قضية لاجئين أغنية على كل لسان وتُرجمت دواوين شعره إلى 22 لغة مخترقة الوجدان العالمي وفاتحة آفاقاً رحبة أمام القضية والقصيدة ومربكة ضمير الخصم الذي امتهن دور الضحية؟ إنه متهم بالذهاب إلى وطنه، ذاك الذي ضاع ثم تحول إلى أسطورة وآلهة وحي لدى شاعر مبدع. هو متهم بالشهادة لشعبه في الأرض التي انتُزع منها، ومتهم بالتواصل مع إسرائيل التي أزعجها لدرجة أن أحد مؤسسي كيانها، إسحق شامير، اضطر إلى التنديد بقصيدة «عابرون» التي واكب فيها درويش انتفاضة الحجارة التي تحولت إلى بؤس ويأس ثم صارت على أيدي المؤتمنين عليها كابوساً.

من يحق له اتهام محمود درويش في وطنيته وفي موقفه من قضية حملها في قلبه حتى تعب وضمّخها بسحر شعره ورهافات حياته؟

إنه العقل المريض الذي لا يميز، مع أن ميزة العقل إدراك التمايزات. إنها الذهنية التي تفرز العالم فسطاطين. ثم تفرز الشعب الواحد فسطاطين. ثم تفرز العائلة الواحدة فسطاطين. أما العودة إلى آخر قصيدة لدرويش، عقب «غزوة غزة»، فربما كانت ابلغ دليل على هذا المنحى الكارثي في التفكير إذ كتب: «رب عدو لك ولدته أمك» قالباً القول المأثور رأساً على عقب وكأنه يستنتج: انتهى زمن المنطق والإيمان على السواء، وها هي الجاهلية تغزو عقولنا وسلوكنا وعقائدنا من جديد.

ليس ما تعرض له درويش من الذين وصفهم بـ«الصبية وأنصاف المثقفين» إلا تنويعاً على ما يسود اليوم في ما دُعي يوماً باعتزاز ساذج «الشارع العربي»، هذا الشارع الذي انتقل بقدرة قادر من الدعوات إلى التحرر الوطني والقومي في النصف الثاني من القرن العشرين إلى التماهي مع دعوات قوى الظلام الصاحية والنائمة تحلل وتحرم وتفتي بلا رادع ولا وازع ولا مقدسات. والبراهين لا تُحصى، لكن الطازج منها، إضافة إلى العراق، مثال رمي «إخوة السلاح» من الطبقة الثالثة عشرة في غزة، وتبرير «حماس» لهذا السلوك وتشريعه بحجة «الخلاص من الفساد»، ثم مثال «فتح الإسلام» الذي يلقى هوى على الأقل في «جزيرة» «فتح الإعلام» المعبرة عما يعتمل في نفوس موزعي الحلوى ابتهاجاً بما يحصل منذ جريمة 11 سبتمبر وما تبعها من تداعيات.

يدفع ما تقدم إلى سؤال أساسي عما إذا كان التناقض مع العدو الإسرائيلي لا يزال أولوية مطروحة على الإنسان العربي السوي. والسؤال يستتبع السؤال عما إذا كانت مواجهة الظلامية والتكفير والإجرام باتت أولى وأكثر إلحاحاً كونها تهدم أسس وجود الإنسان. أما الجواب فهو واضح عند أصحاب العقل وواضح عند الذين ألغوه من الحساب.

أغلب الظن أن محمود درويش وصل إلى قناعة بأن عسف الاحتلال وإجرام اسرائيل أهون من العيش مع محترفي القتل والذبح والإلغاء والردة إلى الغابر من العصور.

ما حصل مع محمود درويش نموذج ومأساة، ومأساة العرب في كل مكان أن يصير المحتل الغاصب أو الطامع المهيمن أو الحاكم المستبد أرق من الشقيق لأنه مجرم، ومن الأخ لأنه سفاك، وأن تصير الأرض المحتلة تفصيلاً بسيطاً أمام تهديد الحياة وقيمة الحياة.