إن التوقعات الخاصة باحتمالات رفع البنك المركزي الأوروبي لأسعار الفائدة في غمرة الأزمة المالية الحالية، لتذكرنا بالخطبة الشهيرة التي ألقاها الخطيب الأميركي العظيم وليام جيننغز براين في العام 1896 تحت عنوان «صليب من ذهب». في هذه الخطبة أشار إلى التأثير الانكماشي لمعيار غطاء الذهب الدولي، حيث قال مستنكراً «لن نسمح لكم بوضع تاج من الشوك على جبين العمال. لن نسمح لكم بصلب الجنس البشري على صليب من ذهب».

Ad

أو بعبارة أخرى، لا ينبغي على الناس العاديين أن يعانوا نتيجة لأخطاء صناع القرار المفتتنين بنظريات اقتصادية عتيقة.

اليوم، وطبقاً للنظرية الاقتصادية العتيقة التي تؤكد أن تحولاً سريعاً في الخيارات المفضلة، أو ما يسمى على سبيل التسويغ بـ «تضاؤل الشهية للمجازفة»، هو السبب الرئيسي وراء أزمة الرهونات العقارية الثانوية أو الأزمة المالية الحالية عموماً. وسعياً إلى تجنب المزيد من انفتاح الشهية على هذا النحو في المستقبل، فقد ركز صناع القرار والخبراء على ما يسمى بـ «معضلة الخطر الأخلاقي»، والتي يتعين على «الأشرار» بموجبها أن يدفعوا ثمن أخطائهم حتى يمتنعوا عن ارتكابها مرة أخرى.

كنت قد أتوقع من نظير وليام جينينغز براين المعاصر أن يحذر البنوك المركزية من صلب الجنس البشري على «صليب الخطر الأخلاقي». ولكن من المدهش أن العكس هو ما يحدث الآن.

فقد بادر بعض الخبراء والمحللين من جناح اليسار، نتيجة لاشمئزازهم من الأنماط المالية التي يعتقدون أنها تدر دخولاً غير مبررة، إلى توحيد قواهم مع خبراء الاقتصاد التقليديين، الذين عجزوا نتيجة لإيمانهم الراسخ بصواب نماذجهم عن إدراك الضرر الذي قد تلحقه نظرياتهم الاقتصادية المريبة بالاقتصاد الحقيقي ومصالح الناس العاديين. ذلك أن الامتناع عن كفالة أو إنقاذ من ألمت بهم الكارثة الآن قد يعني حرمان الأطفال من المدارس بل وحرمان العديد من الناس من مساكنهم.

إن السؤال الرئيسي الذي ينبغي على خبراء الاقتصاد أن يطرحوه على أنفسهم الآن هو: لماذا توقفت الأسواق المالية عن الحركة، بينما تفيض المصارف والمؤسسات المالية الأخرى بالسيولة؟

إن التفسير المثير للجدال والذي يعزو هذا الواقع إلى تضاؤل الشهية للمجازفة ليس مقنعاً بالمرة. ذلك أن السوق الثانوي يبدو أصغر كثيراً من أن يتسبب في مثل هذا التغير الضخم في أفضليات المجازفة.

ثمة تفسير أكثر إقناعاً يقول إن الأزمة الحالية، بأبعادها ونطاقاتها غير المعلومة، أدت إلى تعكير صفو الساحة الاقتصادية إلى حد تجميد حركة المتعاملين في السوق، إلى أن تتضح الأمور على الأقل.

هذا هو الدرس الجوهري المستفاد من كتاب مهم صدر حديثاً من تأليف رومان فريدمان ومايكل غولبريدج تحت عنوان «اقتصاد المعرفة المنقوصة: أسعار الفائدة والمجازفة». إن المفتاح إلى فهم الأسواق المالية، خاصة حين تكون غير مستقرة، كما كانت الحال في الأسابيع الأخيرة، لا يكمن في تغير الأفضليات، بل يتلخص في النقص المتأصل في المعرفة والتوقعات المتغيرة بشأن المسار المستقبلي لأساسيات الاقتصاد الشامل.

ولكن ما وصفات السياسة العلاجية التي يحملها تفسير «المعرفة المنقوصة» للأزمة الحالية؟ يتلخص أهمها في ضرورة مسارعة محافظي البنوك المركزية إلى تخفيض أسعار الفائدة سعياً إلى طمأنة المتعاملين في السوق إلى أن الاضطرابات التي تعانيها الأسواق المالية الآن لن يُـسمَح لها بالتأثير على الاقتصاد الحقيقي.

بالنظر إلى الانقلاب الذي طرأ على سياسات مجلس الاحتياطي الفدرالي (البنك المركزي الأميركي) أخيراً، فلسوف نجد أنه يتصرف وكأن الأمر في مجمله عبارة عن تحول متأخر نحو فرضيات «المعرفة المنقوصة». ذلك أن الاحتياطي الفدرالي، تحت قيادة بن بيرنانكي، الاقتصادي الأكاديمي السابق، كان قد سقط في مستهل الأمر في فخ التغاضي عن العواقب الأوسع نطاقاً والمترتبة على أزمة الرهونات العقارية الثانوية. فقد بادر إلى حقن شرايين النظام بالأموال، إلا أنه استبعد تخفيض أسعار الفائدة.

كانت النتائج المترتبة على هذه السياسة المضللة مأساوية، حيث توقفت أسواق المال على الفور تقريباً إلى الحد الذي جعل الاحتياطي الفدرالي، بعد عشرة أيام فقط من رسالته الأولى التي حاول بها طمأنة الناس، يضطر إلى تحول عكسي محرج، ولكنه ضروري، فخفض أسعار الخصم بما يوازي خمسين نقطة أساسية. وكان تفسير مسؤولي المركزي الأميركي لهذا التوجه أن نسبة المجازفة إلى النمو قد ارتفعت إلى حد كبير.

ليس المهم هنا أن الاحتياطي الفدرالي كان بوسعه أن يبادر إلى ما هو أبعد من ذلك بتخفيض أسعار الفائدة الرئيسية في البلاد، علاوة على أسعار الخصم أثناء اجتماعه الطارئ، وقد يضطر إلى هذا في نهاية المطاف. إن المهم في الأمر هنا هو أن سياسة الاحتياطي الفدرالي قد عبرت الجسر من اللامبالاة إلى بث الطمأنينة. تُـرى هل حصل بيرنانكي على نسخة متقدمة من كتاب فريدمان غولبريدج أثناء تلك الأيام العشرة الحافلة من شهر أغسطس؟

مما لا شك فيه أن بيرنانكي حصل على الوقت الكافي لكي يتفكر ويتدبر في الطريقة التي تعامل بها سلفه الأسطوري ألان غرينسبان مع الأزمة المالية الخاصة برؤوس الأموال الطويلة الأجل في العام 1998. إن غرينسبان لم يكن رجل اقتصاد من النوع الذي قد يصلب الجنس البشري سواء على صليب الخطر الأخلاقي أو صليب النماذج الميكانيكية للنظرية الاقتصادية التقليدية. بل لقد سارع إلى تخفيض أسعار الفائدة لكي يطمئن الأسواق بأن الأزمة المالية الناجمة عن انهيار صناديق التحوط لن تؤثر على الاقتصاد الحقيقي. ولقد استجابت له الأسواق واستجاب الاقتصاد بكل نشاط وحماس.

بيد أن بيرنانكي، بعد زلته الأولى في البداية أو خطأ المبتدئين كما وصفه أحد المعلقين نجح في السير على خطى سادة الاقتصاد. ولكن ماذا عن جون كلود تريشيه رئيس البنك المركزي الأوروبي، الذي وعد الأسواق على نحو أو آخر برفع أسعار الفائدة في شهر سبتمبر، ثم اكتشف الآن أنه قد يضطر كما اضطر الاحتياطي الفدرالي إلى عكس المسار تماماً؟ تُـرى هل يؤجل قراره برفع أسعار الفائدة في سبتمبر أم ينفذ وعده؟

لا أحد يستطيع أن يجزم بمدى تأثير أزمة الرهونات العقارية الثانوية على اقتصاد منطقة اليورو. ولكن في مواجهة مثل هذه الحالة من عدم اليقين، لا ينبغي للبنوك المركزية الحصيفة أن تستغل استقلالها في زيادة الطين بلة برفع أسعار الفائدة. كما تتحسن الأمور أيضاً بالتظاهر وكأن الأحوال عادت إلى طبيعتها وأن الأزمة المالية قد انتهت.

* ميلفين كراوس | Melvyn Krauss ، كبير زملاء معهد هووفر في جامعة ستانفورد.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»