عندما قرر المعز لدين الله الاستيلاء على مصر، لم يجد خيرًا من قائده المحنك جوهر الصقلي ليقوم بهذه المهمة، وجعل تحت قيادته مئة ألف أو ما يزيد من الجنود والفرسان، بالإضافة إلى السفن البحرية. وخرج المعز لدين الله الفاطمي في وداع جيشه الكبير في (4 من فبراير 969م) فبلغ برقة بليبيا.
استأنف الجيش المسير حتى وصل إلى الإسكندرية؛ فدخلها من دون مقاومة، ومنع جوهر الصقلي جنوده من التعرض لأهلها، وأمرهم بالتزام الهدوء والنظام، مستهدفا من ذلك التقرب من المصريين والتودد إليهم، وكانت مصر في هذه الفترة تمر بمرحلة عصيبة؛ فالأزمة الاقتصادية تعصف بها، والخلافة العباسية التي تتبعها عاجزة عن حمايتها بعد أن أصبحت بغداد أسيرة لنفوذ البويهيين الشيعة، وجاءت وفاة كافور الإخشيد سنة (357هـ= 968م) -وكانت بيده مقاليد مصر- لتزيل آخر عقبة في طريق جوهر الصقلي. ولما علم أهل الفسطاط بقدومه اختاروا واحدًا من كبار العلويين بمصر هو «أبو جعفر مسلم» على رأس وفد، ليفاوض القائد الفاتح ويطلب الصلح والأمان، فالتقى الوفد به عند قرية «أتروحة» على مقربة من الإسكندرية فأجاب جوهر طلب الوفد، وكتب عهدًا تعهد فيه بأن يطلق للمصريين حرية العقيدة على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، وأن ينشر العدل والطمأنينة في النفوس، وأن يقوم بما تحتاجه البلاد من ضروب الإصلاح. غير أن أنصار الإخشيديين رفضوا عهد الأمان وعزموا على القتال، إلا أنهم لم يثبتوا في المعركة التي دارت بينهم وبين جوهر في «الجيزة» واضطر أهالي الفسطاط إلى تجديد طلب الأمان من جوهر بعد هزيمة الإخشيديين، فقبل جوهر الصقلي التماسهم، وأذاع على الجند بيانًا حرّم فيه أن يقوموا بأعمال العنف والنهب؛ فهدأت النفوس واطمأن الناس وعاد الأمن إلى نصابه، وفي اليوم التالي دخل جوهر عاصمة البلاد إيذانًا ببدء مرحلة جديدة في تاريخ مصر والشام. وما كاد يستقر الأمر لجوهر الصقلي حتى بدأ في إنشاء عاصمة جديدة لدولته الفتية، ووضع أساسا لها في الشمال الشرقي للفسطاط، فبنى سورًا خارجيًا من الطوب اللبن يحيط بمساحة تبلع 340 فدانا، جعل سبعين منها للقصر الكبير مقر الحكم والسلطان، وخمسة وثلاثين فدانًا للبستان، ومثلها للميادين، وتوزعت المساحة المتبقية -وقدرها مئتا فدان- على القبائل الشيعية والفرقة العسكرية، حيث اختارت كل منها مكانا خاصا بها عرفت به مثل «زويلة»، وكان ذلك نواة لعاصمة الدولة الفاطمية في المشرق، التي سميت في بادئ الأمر بالمنصورية، ثم عرفت بعد ذلك بالقاهرة. ثم تطلع جوهر إلى تأمين حدود مصر الشمالية بعد أن اطمأن إلى جبهته الداخلية المتماسكة، فنجح في ضم الشام بعد جهود مضنية، وكانت السيطرة على الشام تمثل هدفا استراتيجيًا لكل نظام يتولى الحكم في مصر، كما نجح في رد غارات القرامطة الذين حاولوا الاستيلاء على القاهرة، وألحق بهم هزيمة ساحقة سنة 971م في منطقة عين شمس. ولما رأى جوهر الصقلي أن الوقت قد حان لحضور المعز لدين الله لتولى الأمور في مصر كتب إليه يدعوه إلى الحضور؛ فخرج المعز من «المنصورية» عاصمته في بلاد المغرب، وكانت تتصل بالقيروان، فوصل القاهرة في 11 من يونيو 972م، وأقام في القصر الذي بناه جوهر، وخرج في اليوم الثاني لاستقبال مهنئيه. وعقب وصول الخليفة الفاطمي عزل جوهر الصقلي عن دواوين مصر، واختفى جوهر عن الحياة، فلم يعهد إليه الخليفة بمهام جديدة، حتى إذا ظهر خطر القرامطة في بلاد الشام وباتوا خطرا محدقا بالدولة استعان المعز لدين الله بقائده النابه جوهر لدفع هذا الخطر، ثم عاد إلى الاختفاء ثانية. وظل جوهر الصقلي بعيدا عن تولي المناصب حتى وفاة المعز لدين الله وتولى ابنه العزيز بالله الفاطمي، إلى أن عاد الخطر القرمطي في الظهور من جديد في الشام، ولم يجد الخليفة العزيز بدا من الاستعانة به مرة أخرى؛ اعترافًا بكفاءته وقدرته، فتولى قيادة القوات الفاطمية التي زحفت إلى بلاد الشام، حتى إذا تحقق النصر وزال خطر القرامطة عاد من جديد إلى الاختفاء، ولزم بيته حتى توفي في (20 من ذي القعدة 381هـ= 28 من يناير 992م) بعد أن حكم مصر أربع سنوات نيابة عن الخليفة الفاطمي في مصر، وهي تعد من أهم فترات التاريخ الفاطمي في مصر؛ حيث نجح في سياسته الهادئة وحسن إدارته من إحداث التغييرات المذهبية والإدارية التي هيأت الاستقرار للدولة الجديدة، وعبّرت عن مظاهر سيادتها.
توابل
جوهر الصقلي... فاتح مصر
07-10-2007