من الزنزانة إلى الرصيف
في المحصلة، كل يقوم بدوره كما يراه في اللحظة الراهنة مناسباً. وشريحة واسعة لاتزال تفضل التغيير بالقلب، والمعارضة تعتمد التغيير بالقول الحر، وبعض فئات المجتمع اختارت وفقاً لظروفها التغيير باليد، وبالتأكيد ليست محصلة هذه «التغييرات» حتى اللحظة حراكاً مجتمعياً فاعلاً يعول عليه، خصوصاً مع غياب أي تفاعل عملي حتى الآن ما بين الفرقاء الثلاثة.
من المؤسف أن تكون حملة اعتقالات تعسفية، هي من السبل الأكثر «توافراً» للتواصل بين المعارضة والمجتمع، لكن مع الأخذ في الاعتبار الظروف الأمنية الخانقة التي تحيط بعمل الحراك الديموقراطي السوري، وعدم توافر وسيلة إعلامية مرئية يتواصل هذا الحراك من خلالها مع مجتمعه، يغدو خبراً صغيراً في شريط إخباري على إحدى الفضائيات لا يقدر بثمن!الخبر الذي دار على أكثر من شريط في أكثر من محطة، لا يتعدى كلمات قليلة، مفادها اعتقال المزيد من أعضاء المجلس الوطني لإعلان دمشق. وكان فرصة ليسأل السائلون ما هذا الإعلان؟ ومن هؤلاء الذين اعتقلوا؟ ولماذا؟ والإجابات تحرض حوارات غنية، فكون أحد المعتقلين سيدة، يثير امتعاضاً أكبر بكثير من اعتقال السادة في مثل مجتمعاتنا. وكون بعض المعتقلين ضمن الحملة الأخيرة، هم من أقرباء معتقلين حاليين (الصحفي المعتقل أكرم البني أخ المعتقل أنور البني، والصحفي المعتقل علي العبدالله والد المعتقل الشاب عمر العبدالله)، يثير استهجاناً كبيراً، خصوصاً أنه يفتح الذاكرة على جراح لم تندمل. وكون بعضهم هم ممن قضوا سنوات طويلة سابقاً داخل السجون، يثير تساؤلاً متشائماً سمعته كثيراً خلال الأيام القليلة الماضية: أمازال عندهم أمل؟! أو أنه يثير إحساساً غير جميل بانعدام الرجولة لدى البعض، معتبرين أن الرجال الحقيقيين هم هؤلاء المعتقلون، وباقي المجتمع إذاً، «حريم» ربما! وهؤلاء قد يتحتم عليهم تغيير تعبيراتهم بعد اعتقال السيدة فداء الحوراني.في المحصلة، هو يثير تساؤلات عديدة لدى المواطن العادي، حول ما هو مطلوب منه للمساهمة في تغيير واقعه غير المتلائم مع حاجاته ومتطلباته لعيش كريم حر، وحول كيفية التعامل مع كم الخوف المبرر من قمع لا يرحم، وفي أي من اتجاهات تغيير «المنكر» عليه أن يخطو، بقلبه أو بلسانه أو بيده. وقد يبدو أن التغيير في القلب هو الأكثر شيوعاً حتى الآن، حيث تبقى مشاعر السخط والتذمر غير بادية للعيان في مواجهة السلطة، وتتجلى أشكالاً مختلفة من سلوكيات اجتماعية قد يصعب تفسيرها في غير هذه الأوضاع.لكن في الواقع، فإن محاولات كثيرة جرت خلال العامين الماضيين للتغيير باليد، وكونها لم تحظ بتغطية إعلامية أو اهتمام يذكر، لا ينقص من أهميتها ودلالاتها. على سبيل المثال، حصلت مواجهات عديدة في غير مكان، بالحجارة وتوابعها مقابل الهراوات والغاز المسيل للدموع بين سكان أبنية وأحياء كانت مهددة بالهدم والاستملاك. خسر السكان جميع تلك المواجهات، لكنها كانت بوادر مقاومات صغيرة ضد الاستغلال واللاعدالة، لم يعتد عليها مجتمع محكوم عرفياً، وعبّرت عما يمكن أن يكون عندما يصل الظلم إلى حد تهديد المأوى ولقمة العيش. كما أقدم بعض سائقي الباصات على عدد من الإضرابات المطلبية، وإضرابات واعتصامات أخرى حصلت في غير مكان لأسباب متنوعة، جميعها ليست على صلة مباشرة بقضايا سياسية، ولا علاقة لها بتنظيمات معارضة، ولا خطاب محدد لها، باستثناء تلبية مطالبها برفع الظلم الذي حاق بها في موضوع معين. في بعض تلك الاحتجاجات، كان يُهتف باسم رئيس الجمهورية أو ترفع صوره. هذا مفهوم تماماً، لأن هؤلاء رغبوا في إيصال رسالة إلى السلطة مفادها أنهم ليسوا ضدها... إلا في هذا الأمر الذي يحتجون ضده! وفي ذلك ما يحمي «التغيير باليد» الذي كانوا يقودونه ضد تهمة قد تعصف «بالتغيير بالقلب» وتودي به إلى خانات المعارضة ومعتقلاتها. في المحصلة، كل يقوم بدوره كما يراه في اللحظة الراهنة مناسباً. وشريحة واسعة لاتزال تفضل التغيير بالقلب، والمعارضة تعتمد التغيير بالقول الحر، وبعض فئات المجتمع اختارت وفقاً لظروفها التغيير باليد، وبالتأكيد ليست محصلة هذه «التغييرات» حتى اللحظة حراكاً مجتمعياً فاعلاً يعول عليه، خصوصاً مع غياب أي تفاعل عملي حتى الآن ما بين الفرقاء الثلاثة، لكن مثل هذه الإحاطة بصورة ما يحدث حقيقة في المجتمع، من شأنها أن تطمئن المتشائمين، الذين يتساءلون عن ماهية الأمل لدى معتقلين لا يخرجون من السجن إلا ليعودوا إليه ثم منه. وهي قد ترد على من يشعرون بالعجز، فيظلمون مجتمعاً عانى ما عاناه، ولايزال يبتدع مقاوماته الصغيرة من أجل حياة أفضل، وهي أخيراً، تدفع إلى المزيد من التفكر، حول وسائل ربط الزنزانة بالرصيف. لا نقصد بطبيعة الحال إدخال المجتمع كله إلى السجن الصغير، بل إخراج المعتقل في زنزانته بما يحمله من رسالة للتغيير، إلى المجتمع، ويقول محمود درويش «حريتي أن أوسع زنزانتي، فإذا بها تتسع لتكفينا جميعاً، نحن من نغير بالقلب أو باللسان أو باليد»! * كاتبة سورية