صحارى ومتاهات

نشر في 04-01-2008
آخر تحديث 04-01-2008 | 00:00
 محمد سليمان

كنت ومازلت أعتبر الصحراء كنزاً مدخراً للمستقبل سنعتمد عليه عندما نفكر ونخطط ونتسلح بالمعرفة، ونصبح بالتالي قادرين على الكشف والتنقيب وقراءة الأسرار ومعرفة المخفي والمكنوز، لكن هذا الحلم تراجع في الأعوام الأخيرة وعاد إلى الصحراء وجهها الغامض والمخيف وامتد التصحر إلى كثير من المجالات فتكاثرت المتاهات.

الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس هو أحد آباء الواقعية السحرية وواحد من كتاب أميركا اللاتينية الكبار، كتب القصة والقصيدة والمقال القصصي وانشغل بقراءة ودراسة آداب العالم القديم وحكايات الشعوب وأساطيرها، وقد أشار في بعض حواراته إلى افتتانه وتأثره بألف ليلة وليلة، وهو في إحدى قصصه يحدثنا عن أحد ملوك الغرب الذي استضاف ملكاً عربياً وراح يطوف به في أرجاء مملكته لكى يريه مدى تقدم بلاده وقوتها، وفي النهاية صحبه إلى المعجزة التي أمر بصنعها «متاهة المرايا» طالباً منه استنفار مهاراته وشحذ ذكائه للخروج منها. كانت المتاهة مكونة من ممرات عديدة ملتفة ومبطنة بالمرايا التي تعكس وتشوه وتخدع ولم يستطع الملك العربي الخروج منها إلا بعد تعب ومشقة وصبر، ثم استضاف الملك العربي زميله ملك الغرب وبعد إكرامه والاحتفاء به أخذه إلى قلب الصحراء قائلا: بفضل الله نجوت من متاهتك والآن أتركك هنا في متاهة من صنع الله القدير وعليك أن تشحذ ذكاءك ومهاراتك لكي تخرج منها.

الصحراء هي المتاهة العظمى التي تجبر من يعيش فيها على الصبر والحرص والتأمل والاستفادة من المتاح والسعي للخروج منها أو مواجهة قسوتها.

والصحراء هي أيضاً بلادنا التي نعيش فوقها أو حول الأنهار في واحات ووديان صغيرة محاطين بها وخائفين منها وعاجزين بسبب ندرة المطر والجفاف على التمدد والتوسع وطرق باب الرخاء.

والصحراء تستدعي من الذاكرة إيحاءات لا حصر لها منها الجدب، الوحشة، الظمأ، الجوع، القسوة، الضياع، البداوة، والعزلة، وتستدعي العديد من قصائد شعرنا القديم والحديث، والمتابع لشعرنا سيدرك أن الشاعر المعاصر قد وسع مفهوم الصحراء ليشمل المدينة والحياة فيها، وأظننا نذكر قصيدة أحمد عبدالمعطي حجازي «هذا الزحام لا أحد» التي كتبها قبل نصف قرن، وبالإضافة إلى الشعر تستدعي الصحراء قصصاً وروايات عديدة من الأدبين العربي والعالمي منها بعض أعمال عبدالرحمن منيف، وأحمد الفقيه، ومعظم أعمال إبراهيم الكوني.

«صحراء التتار» رواية لا تنسى للكاتب الإيطإلى دينو بوتزاتي بطلها ضابط شاب يُرسَل إلى حصن صغير قابع في الصحراء لكي يحرس الحدود، ولكي يراقب ويحذر إذا رأى طلائع الهمجيين أو جيوشهم، ولكي يظل في الصحراء وحيداً يراقب ويحلم بالهمجيين الغزاة، وبالمعارك الطاحنة التي سيخوضها والانتصارات والبطولات، وتمر الأعوام وهو ينتظر ويراقب ويحلم ويشيخ ليكتشف في النهاية عندما يبلغ سن التقاعد ويصل ضابط شاب لاستلام الحصن ومهام المراقبة أنه عاش ضائعاً ومنسياً في متاهة لا حدود لها.

في رواية بوتزاتي تواجهنا الصحراء بوجهيها المادي والمجازي لكنها في أعمال الكاتب الليبي إبراهيم الكوني تصبح المكان-البطل لأكثر من عشرين رواية ومجموعة قصصية منها الروايات: «نزيف الحجر- خريف الدرويش- واو الصغرى- الفزاعة- صحرائي الكبرى- المجوس- البئر-الواحة- الفم- السحرة» وغيرها لذلك يعتبر الكوني أهم وألمع الروائيين العرب الذين انشغلوا بالصحراء واتخذوها بطلاً لأعمالهم. وولع الكوني بالصحراء هو ولع صوفي يشده دائما إليها ويدفعه إلى تحسسها والكشف عن ألغازها ومواصلة الرحيل فيها، ومن هذا المنطلق يمكننا أن نقول إن الكوني أسس رواية الصحراء في الأدب العربي كما أسس غيره رواية المدينة ورواية الريف، فكل روايات إبراهيم الكوني تتضافر وتتلاحم مشكّلة ملحمة الصحراء الكبرى بحكاياته وأساطيرها وتقاليدها وسكانها وحيواناتها ومتاهاتها وعفاريتها وطرائق العيش، والكوني يقدّم ذلك كله بولع الصوفي وعشقه وبلغة العراف وأحاسيس الشاعر، محاولاً أن يفتح أعيننا على صحراوات تحيط بنا وتعيش فينا ولكننا خوفاً من الضياع في متاهاتها نغمض أعيننا لكيلا نراها.

في صباي كان غزو الصحراء شعاراً مقدساً والخروج من الوادي الضيق حلماً هائلاً وجميلاً رسخته الأناشيد والأغاني والسد العالي والقصائد والحكايات وخطب عبدالناصر.

وكنت ومازلت أعتبر الصحراء كنزاً مدخراً للمستقبل سنعتمد عليه عندما نفكر ونخطط ونتسلح بالمعرفة ونصبح بالتالي قادرين على الكشف والتنقيب وقراءة الأسرار ومعرفة المخفي والمكنوز لكن هذا الحلم تراجع في الأعوام الأخيرة وعاد إلى الصحراء وجهها الغامض والمخيف وامتد التصحر إلى مجالات السياسة والاقتصاد والتعليم والثقافة فتكاثرت المتاهات التي ندور فيها والتي نحلم بالخروج منها.

* كاتب وشاعر مصري

back to top