اختزلت تجربتنا الديموقراطية في جزء بسيط جداً من الجانب السياسي هو الحق في التأشير على ورقة الانتخاب كل عدة سنوات. وحتى هذا الحق كان غير كامل، فلم يسلم مجلس الأمة هو الآخر من العبث والتشويه.هذه حالتنا منذ العمل بدستور 1962، نهدأ قليلاً ثم بفعل فاعل يتم تأزيم الوضع السياسي. لم تتجذر تجربتنا الديموقراطية للمزيد «من ضمانات الحرية والمساواة»، كما أراد وقرر المؤسسون في نص المادة 175 من الدستور.
فالقوى المعادية لبناء دولة دستورية يتساوى فيها المواطنون أمام القانون، عملت ولا تزال تعمل لتقويض وتشويه هذه التجربة. فتم العمل على تفريغ الدستور من محتواه، ولم تطبق الأغلبية العظمى من مواده، وأصبح مجرد أداة للتباهي بها في الخارج بالقول إننا دولة ديموقراطية، والإشارة إلى بعض مواده، محلياً، في الخطب المكتوبة والمقابلات الصحفية فقط.
وتم تجاهل الديموقراطية الاجتماعية التي تعتبر أساس أى نظام ديموقراطي، فتم التعدي على الحريات العامة والتدخل في الحريات الشخصية، واختزلت تجربتنا الديموقراطية في جزء بسيط جداً من الجانب السياسي هو الحق في التأشير على ورقة الانتخاب كل عدة سنوات. وحتى هذا الحق كان غير كامل، فلم يسلم مجلس الأمة هو الآخر من العبث والتشويه بدءاً من تخريب النظام الانتخابي لتسهيل عملية التحكم في نتائج الانتخابات، حيث قسمت الكويت انتخابياً إلى دوائر مفتتة ومقسمة قبلياً وطائفياً وفئوياً، وانتشرت عملية شراء الذمم بشكل مباشر وغير مباشر عبر الخدمات التي يشوبها شبهات التعدي على المال العام وبخس الآخرين حقوقهم، كالعلاج في الخارج والنقل والترقية والتوظيف وتمرير المعاملات وتسهيل إبرام الصفقات الضخمة والواسطة في كل شيء بدءا من التوظيف من دون دوام إلى التعيين في الوظائف العليا.
وهكذا، أصبحت عملية الاختيار الانتخابي تعتمد، ليس على البرنامج السياسي، وإنما على نوع ومقدار الخدمات الشخصية التي يقدمها المرشح ومدى اتساع علاقاته القبلية والطائفية والعائلية. فكلما زادت معاملات الناخبين الشخصية التي ينجزها المرشح، زادت حظوظه في النجاح. لذا يتباهى أحد الأعضاء الحاليين أمام ناخبيه بأنه قد أنجز ما يزيد على 8000 معاملة شخصية خلال أقل من عام. كما أنه ونتيجة للتدخل الحكومي في الانتخابات، وصل المجلس مجموعة من «مخلّصي المعاملات» فاقدي البرنامج والأفق السياسي. ليس هذا فحسب، بل ان بعض الأعضاء كانوا في الأصل معادين للدستور والديموقراطية وكان لهم ولا يزال مواقف سيئة من الحريات العامة والشخصية.
هذه الديموقراطية الشكلية وهذا المجلس، الذي أتى نتيجة لسياسات الحكومة، وليس الدستور، هما اللذان ازداد استياء الناس منهما. وإذا كان هنالك تذمر من أداء هذا المجلس فهو في النهاية، تذمر من نوعية «خبز» الحكومة الناتج عن الخمس والعشرين دائرة والتدخلات المباشرة في العملية الانتخابية. وقد اتضح هذا التذمر خلال المطالبة الشعبية في العام المنصرم بتعديل الدوائر الانتخابية، أملا أن يأتي مجلس يحمل أعضاؤه برامج سياسية وطنية، وليس برامج تخليص معاملات. والمثير للاستغراب، ألا تستجيب الحكومة للمطلب الشعبي، فتتم الدعوة إلى انتخابات جديدة، وفقاً للنظام الانتخابي الجديد!
أما بالنسبة للدستور، فإنه رغم كل هذا التدخل الحكومي السلبي والمستمر في سير التجربة الديموقراطية والمحاولات المتكررة للانقلاب على الدستور، فإن الشعب الكويتي قد حافظ على الدستور من العبث، وكما يقال «إذا سلم العود... الحال يعود».
ومع تكرار الحديث مجدداً عن محاولة جديدة للانقلاب على الدستور، وهو أمر من المؤكد أن الشعب الكويتي سيتصدى له كما تصدى للمحاولات السابقة، فإن السؤال الملح هو: أما آن لنا أن نستريح ونتفرغ لتنمية وتطوير بلدنا في جو من الاستقرار السياسي تحت سقف الدستور الذي حدد كيفية تطويره لمزيد من ضمانات الحرية والمساواة، بدلا من محاولات التفكير في الانقلاب على الشرعية الدستورية التي هي الضمان الوحيد لاستقرارنا السياسي؟!
فلأكثر من 44 عاماً والتجربة الديموقراطية تعاني تدخلات حكومية متعددة، ويعيش الشعب هاجس «الحل»، فلا نكاد نلتقط أنفاسنا إلا وأدخلنا عنوة في أزمة «تهديد» جديدة بنقض العقد الاجتماعي، على طريقة «جاك الذيب جاك وليده»، فمن يا ترى يعرقل التنمية؟