قبضة حديدية في كفّ مخملية. رشيدة داتي وزيرة العدل الفرنسية المغربية الجذور تختصر في ذاتها نضالاً رمزياً يمدّ الشبّان المهاجرين بأمل تحقيق طموحاتهم يوماً ما. رغم اضطلاعها بشؤون وزارة خصّصت لها الحكومة الفرنسية أقلّ موازنة (6.5 مليارات يورو)، أي أقلّ بعشر مرات من وزارة التربية الوطنية، نجحت داتي في لفت أنظار الرئاسة اليها، وقد أوكلت إليها مهمّات قضائية جديدة قبل الانتخابات البلدية، فبرهنت عن عزم في المضي قدماً رغم الاحتجاجات المنهالة عليها من كل حدب وصوب. والمناضلة ذات الابتسامة الساحرة زائرة شرف في معظم الأسفار الرسمية إلى الدول الأجنبية. قد تُنتَقَد أو تُصَوَّب نحوها سهامٌ عدّة ولكن ما من أمر سينغص عليها سعادتها. ففتاة المدينة البسيطة هذه تمكّنت من تحقيق حلم شبه مستحيل: في الثانية والأربعين تدرك رشيدة تماماً أنّ لحياتها مصيراً محدداً.تبهرك شخصية داتي لما تمتاز به من روح قيادية ومثابرة. تستيقظ الوزيرة في الصباح الباكر وتخلد إلى النوم في ساعةٍ متأخرة، وتكرّر دوماً على مسامعك: «العمل هو أهم أمر في حياتي». والعمل هذا هو الأمر الوحيد الذي رافقها طوال فترة الدراسة، من المدرسة الثانوية إلى كلية الحقوق. فرشيدة تلميذة ممتازة تتميّز بتصميمٍ منقطع النظير ومثابرةٍ لا مثيل لها في سبيل تحقيق ما تصبو إليه. بعزم كبير أحاطت نفسها بشبكة من المستشارين من بينهم ألبن شالاندون، وسيمون فاي، وجان لوك لاغاردير، الذين يسدون إليها النصح والمشورة في خطواتها الأولى نحو السلطة.
استرعت داتي انتباه نيكولا ساركوزي لما لها من مناقبية في العمل ولشخصيتها الفذّة، الأمر الذي مهّد لها الطريق الى الحكومة الفرنسية في العام 2002. بعد سطوع نجمها أثناء الحملة الرئاسية، نالت داتي شهرة سياسية بسرعة البرق، ما سبّب لها أخصاماً، حتى في صفوف مؤيديها. عام 2008 بالنسبة اليها حافل بالمشاريع، فهي تواصل الاهتمام بالإصلاح الذي وعدت به ورشحت نفسها للانتخابات البلدية عن دائرة باريس السابعة، وهي فرصة سانحة بالنسبة إليها للبرهان على انّها قادرة على مواجهة تحديات الزمن.
شعبية وعمل
في حوار لها مع باري ماتش الفرنسية وحول سؤال بشأن انحسار شعبيتها رغم تجسيدها رمز التغيير في فرنسا تؤكد داتي أنّ الفرنسيين لو لم يرغبوا في التغيير «لما انتخبوا نيكولا ساركوزي بهذه الأكثرية». وتؤكد أنّ صعوبة الحفاظ على الشعبية تكمن في «أننا نعيش في مجتمع يعلّق أهمية كبرى على الشعبية الفورية أكثر منه على الفعالية. بإمكاني أن أحظى بقبول الشعب حتى لو بقيت مكتوفة اليدين ولم أحرّك ساكناً. ولكن هذا ليس ما ينتظره الفرنسيون مني».
لا تنكر داتي أنّ جمعها لأقليّتَين في شخصيتها: النساء والمنحدرين من أصول مهاجرة يلقي على عاتقها مسؤولية كبرى. فهي تقول: «بما أنني لا أنتمي إلى عائلة سياسية عليّ أن أظهر قدراتي فعلاً لا قولاً. لا يحق لي الارتجال، بل عليّ الاطلاع على كافة الملفات المطروحة أمامي وذلك تقديراً مني للشعب الفرنسي ولنيكولا ساركوزي وللمنتخَبين جميعهم».
لا يخيف العمل المضني الوزير الشابة بل هي تعشقه رغم أنّ البعض يراها تخسر وزنها بسببه ويخشى عليها من انهيار صحيّ لكنها تبادر سريعاً الى الاجابة: «أنا مقاومة بطبيعتي، ولديّ قدرة كبيرة على التحمل. عندما عملت ممرضةً، في العشرين من عمري كنت أعمل 12 ساعة يومياً وكان ذلك متعباً. أما اليوم فلم أعد أشعر بتعب كبير لأنني أعشق المهامّ الموكلة إليّ والمواضيع التي أصبّ اهتمامي عليها». وشأنها شأن السواد الأعظم من الناس تلاحق داتي هوس أمها الدائم بصحتها وتقول حول هذا الموضوع: «تمطرني أمي بأسئلة من نوع: «هل تنامين بشكل وافٍ؟ هل تتناولين الطعام؟»، فهي تراني في حركة مستمرة على مدار الساعة. حتى إنّها تتعب عني أحياناً. أما أبي فقد اعتاد على طمأنتها بالقول: «دعيها وشأنها، لا تقلقي عليها فهذه طبيعتها. وهذا صحيح فأنا لا أحتاج إلى كثير من النوم». أما بالنسبة الى مسألة خسارة الوزن فهي تعتبر أنّ جدول حياتها الحافل بالمواعيد والاجتماعات يجعلها في حركة دائمة، ويحول دون امتلاكها وقتاً كافياً للجلوس إلى طاولة تتناول عليها وجبة مؤلفة من المقبلات، يليها الطبق الرئيس تليه التحلية.
عن شخصيتها المرحة رغم اعتقاد من لا يعرفها عن كثب أنها امرأة غير ودود تقول: «تربيت على الضحك وحبّ الحياة. أنا امرأة اجتماعية للغاية. لطالما أحببت الضحك لأنه بهجة الحياة، وفي سنّي هذه لن أغيّر عاداتي. ما من سرٍّ لتفاؤلي إلا أنني، بكل بساطة، أحبّ ما أقوم به».
تكنّ داتي لساركو كل الاحترام ولكنّها لا تلتقيه على الدوام على عكس ما يظنه الناس: «يخيل للبعض أنني ألتقي بالرئيس دوماً، إلا أن هذا غير صحيح إذ قلّما ألتقيه. وحين أفعل لا أناقش معه شؤوني المهنية لأنّ رئيس الحكومة هو المسؤول عن هذه الأمور. أدرس ملفاتي وأتخذ الإجراءات اللازمة ثم أرفع تقريري إلى فرانسوا فيلون فهو رئيس الوزراء».
وتشير داتي الى أنّها تتجاذب أطراف الحديث مع الرئيس كلّما استطاعت ذلك حول الحياة والكتب «قرأ الرئيس في هذا الصيف كتاب «La Fayette» للكاتب غونزاك سان بري. كذلك تحدثنا عن كتاب «Baisers de cinema» للكاتب إريك فوتورينو الذي نصحني بقراءته. هذا فضلاً عن تبادلنا الآراء حول الأفلام التي نشاهدها ومن بينها «Hotel Rwanda» الذي يشارك فيه الممثل جان رينو».
طموح وسفر
تتمتع داتي بطموح كبير فهي كانت في ما مضى مشرّعة ثم أمضت 5 سنوات في وزارة الداخلية، ثم أصبحت المتحدثة باسم نيكولا ساركوزي، وها هي اليوم وزيرة عدل. ما هي خطوتها التالية؟ أن تصبح رئيسة مجلس الوزراء. تردّ بروية: «لا أحد يستطيع التنبؤ بالمستقبل. أنا الآن أُعنى بوزارة تهتم بمشاكل الناس وهمومهم، وأحاول إجراء إصلاحات كبيرة وصعبة فيها. أما نصري الكبير فهو أن يعرب النساء عن فخرهن بتحقق العدالة ويقلن: «لقد كانت رشيدة وزيرة عدل أمينة».
لا تجد داتي في سفراتها المتكرّرة أمراً مثيراً للاهتمام. هي اليوم في البيت الأبيض، وغداً في مراكش وفي اليوم التالي في قصر بكين الملكي ولكنها لا تجد في الأمر ابتعاداً عن الروتين وواقع الحياة اليومية. وحول هذا الموضوع تقول: «ليست سفراتي المتكررة بأمرٍ ممتع بل على العكس. لست أرى في السفرات إلا عاملاً يساعدني على التعرّف إلى الحقائق الدولية. بالنسبة إلي يخوّلني الاجتماع برؤساء الدول والاستماع إلى مناقشاتهم حول تحديات العالم الكبرى فهم الحياة السياسية والمسؤوليات التي تفرضها علي. ليس أمراً ممتعاً بالنسبة إلي مثلاً المشاركة في اجتماع بين جورج بوش وساركوزي، لفهم وجهة نظر كلّ منهما في مسألة الشرق الأوسط، أو الاستماع إلى الرئيس الفرنسي ورئيس الوزراء الصيني يدخلان في تفاصيل المشكلات والتحديات الاقتصادية والنقدية والبيئية في بلديهما. إنّها موضوعات حاسمة ودقيقة بالنسبة إليّ وليست مجرّد متعة».
ولا تأبه داتي للاتهامات الموجهة اليها منتقدة إياها بالسفر الدائم وهي تردّ عليها من دون أن يرفّ لها جفن: «أنا في فرنسا 4 أيام في الأسبوع، خصوصاً في عطلات نهاية الأسبوع. أتفقّد المحاكم ومراكز الاعتقال وسجون الأحداث. لا بدّ من السفر إذا كان الأمر مجدياً. في شانغهاي مثلاً كنت أناقش ملفات عدة: إنشاء مركز لإعداد كتاب العدل، والنضال ضد الاتجار بالبشر، والتزوير. كما أنني أسافر أحياناً لتوقيع اتفاقيات تعاون وتنسيق بين الأجهزة القضائية المختلفة».
عن باري ماتش بتصرّف
عائلة وزواج تشدّد رشيدة في كتاب كلود أسكولوفيتش «Je vous fais juges» الصادر عن دار نشر Grasset، على أهميّة العودة إلى الكنف العائلي والتواصل مع الاخوة ولها منهم 11. هل لديها الوقت لتبقى على اتصال بهم؟ تجيب: «أبي متشدد جداً بالنسبة الى هذا الموضوع، رغم أنه يدرك تماماً واجباتي المكبّلة. إذا لم أتصل به في الوقت المعتاد لا يجيب على اتصالي في وقت لاحق. لكن شقيقاتي أكثر مرونة فنحن نتواصل باستمرار، أو نتراسل عبر البريد الالكتروني أو الرسائل القصيرة».
وداتي متعلّقة بوالدها الى حدّ كبير فهي تهتمّ به أكثر من إخوتها. لماذا؟ لأنها تجد أنّه «من الضروري ألا يغيّر نمط حياته ويشعر بالحزن في ظل غياب والدتي. فهو الذي علّمنا أن الموت مصيرنا جميعاً على هذه الأرض. لذلك أشغله بأمورٍ تسلّيه. وبما أنّه يمضي وقته في القراءة، أشتري له الكتب والروايات. لقد عشق الكتابين الأخيرين اللّذَين اشتريتهما له. الأول لكلود الليغر والثاني لجاك أتالي حول غاندي».
وتضيف: «حين كنا نرتاد المدرسة في صغرنا، كان أبي يطرح علينا أسئلةً عن شارلمان ونابوليون وكان يحفظ سيرتهما الذاتية عن ظهر قلب. وما لفت انتباهي أنه شغوف جداً بلويس الرابع عشر».
نجاح داتي المهني لا يمنعها عن التفكير في تكوين عائلة وإنجاب الأطفال. تؤكد: «طبعاً أفكّر بالارتباط ولحسن حظي أن ثمة رجالاً يبدون اهتمامهم بي وإلا لكان انتابني شعور بالحزن!».
تحبّ داتي الموضة كثيراً. فهي تشتري الثياب والمجوهرات والأحزمة من ماركات معروفة كبرادا Prada وشانيل Chanel. وتعشق شراء الأحذية. يرى البعض في الأمر طريقةً في التعويض وسدّ فراغ الحياة العاطفية. وتجيب: «منذ نعومة أظافري اعتدت التأنق. هذا ما علّمتني إياه أمي. فمنذ صغرنا كانت تمضي وقتها في خياطة التنانير والفساتين والوشاحات والقفازات لنا. ليست ثيابي مميزة الى هذه الدرجة. أحبّ الستايل الكلاسيكي. كانت أمي تقول لي إنّ الملابس بحدّ ذاتها ليست مهمة بل طريقة اختيارها وتنسيقها بحيث تتلاءم مع لون البشرة وشكل الجسم».
أما عن مهاراتها النسائية الأخرى كحب الطبخ مثلاً فهي تقول: «إن أجبت بنعم ستموت عائلتي من الضحك!». وتردف: «أحبّ الحياة والرقص والحفلات. في صباي كنت أرنّم في الكنيسة. أعشق الترانيم الدينية. لكنني خلافاً لأمي لا أجيد الغناء. أذكرها جيداً حين كانت ترقص وتغني أغانيَ لجو داسان وخصوصاً «L’Amérique»، ولنيكوليتا «Mamy Blue» وسيلفي فارتان. حفظت هذه الأغنيات عن ظهر القلب».