Ad

كان حافظ إبراهيم يبحث عن جمهور يضمّ كل المصريين والعرب المعاصرين له، وهذا البحث العبثي عن المستحيل كان على حساب القيمة والتميز وإعمال الخيال والموهبة، لذلك هيمنت المباشرة والسطحية والتقليد على العديد من قصائده، إذ دفعه خوفه من الغموض ورغبته في الوصول بشعره إلى جميع معاصريه إلى انتهاج سلوك غريب وغير مسبوق.

في أوائل السبعينيات كان صلاح عبد الصبور يحذّرني من الغموض قائلا: «الشعراء يكتبون لأنفسهم وللناس أيضاً، والغموض يبعد المتلقي ويعزل الشاعر»، وكان أمل دنقل يقول لي: «إذا لم تنجح اليوم كشاعر فلن تنجح أبداً والرّهان على المستقبل حماقة، والقصيدة الغامضة هي الفشل بعينه لأنها لن تصل إلى الناس ولن تحقق للشاعر النجاح الذي يكدّ من أجله».

وكان رئيس تحرير مجلة «إبداع» د.عبدالقادر القط يشكو من غموض شعر جيل السبعينيات، ولكي لا يغضبنا، وكنا أكثر من عشرة شعراء، عزلَنا عن متن المجلة واخترع لنا باباً أطلق عليه «تجارب» قائلا بمكره الجميل: «لكي أنبه القارئ وأحثه على شحذ قدراته وأسلّط الضوء على شعركم»، وقد صار هذا الباب بعد فترة قصيرة أهم أبواب المجلة.

ورغم أني كنت ومازلت ضد الغموض المفتعل وغير المبرر فنياً فقد ظلت آراء أمل وموقفه من الغموض الشعري بكل أشكاله ومستوياته مثار خلاف دائم بيننا حتى وفاته، وكنت أرى أن الخوف البالغ من الفشل والسعي إلى استرضاء القارئ أو المتلقي سيصنعان في النهاية قفصاً حديدياً للشاعر ويسجنان طاقاته ومواهبه وسعيه كمبدع إلى الاختراق والاكتشاف والتجريب والبحث في دهاليز ذاته وغاباتها.

موقف صلاح عبدالصبور وأمل دنقل ود.القط من الغموض أعاد إلى الذاكرة موقفاً آخر أكثر تطرّفا «لحافظ إبراهيم» الذي نحتفل بالذكرى الخامسة والسبعين لرحيله، والذي دفعه خوفه من الغموض ورغبته في الوصول بشعره إلى جميع معاصريه إلى انتهاج سلوك غريب وغير مسبوق كما جاء في مقدّمة ديوانه التي كتبها الأستاذ محمد إسماعيل كاني «اختار حافظ رجلاً من عامّة الشعب اعتبره المستوى العام لفهم «ابن البلد» المصري وكان اسمه علي محمود حسن الكرساتي ليعرض عليه كل قصيدة يضعها بيتاً بيتاً فإذا وجد منه فهماً للبيت أجازه وإلا غيّر وبدّل وحذف أحياناً حتى يطمئن إلى أن كل الشعب المصري بمستوياته الثقافية المختلفة سيفهم وسيعي كل بيت في القصيدة، فإذا فهم الشعب المصري فهمت الشعوب العربية».

هذا السلوك الغريب يطرح العديد من الأسئلة عن الشاعر ودوره وخصوصية تجربته ولغته، وعن التلقي ووظائف اللغة، وعن الجمهور الذي يراه الشاعر أو يتخيله أو يسعى إليه، وعن ذلك الغموض الذي جعل منه بعض الشعراء والنقاد «بعبعاً» هائلاً ومخيفاً.

حافظ إبراهيم كان واحداً من ظرفاء عصره محبوباً كشاعر وطني مشغول بأحداث وهموم وطنه، وكان أيضاً محاطاً بالأصدقاء والمحبين والمريدين من كل الاتجاهات الفكرية والإبداعية لكنه لم يختر ناقداً أو مبدعاً يعرض عليه شعره، ولم يختر الإمام محمد عبده الذي أحبه ولاذ به، ولم يختر زميله شوقي، وأظنّه كان يضع كل هؤلاء في زمرة النخبة ويخرجهم بالتالي من دوائر اهتماماته لأنه كان يبحث عن جمهور يضم كل المصريين والعرب المعاصرين له، وهذا البحث العبثي عن المستحيل كان على حساب القيمة والتميز وإعمال الخيال والموهبة، لذلك هيمنت المباشرة والسطحية والتقليد على العديد من قصائده، وأحمد أمين في تقديم الديوان يشير إلى ذلك عندما يقول «كان خيال حافظ للأسف قريباً قلّ حظه من الابتكار والتصوير وقصر عن الغوص والتحليق في السماء ليصوّر ما يجذب النفوس إليه» والانحياز إلى المباشرة جعل حافظاً يرى في شعر شوقي غموضاً هائلاً يحتاج إلى تخوت الرمل وطوالع التنجيم للوصول إلى معانيه، وجعله أيضا الشاعر الأول في المراثي والوطنيات خاصة، وقد كان بارعاً في إلقاء شعره وقادراً على إثارة إعجاب سامعيه وإبهارهم، وقد أشار العقّاد إلى ذلك عندما قال «شعر حافظ لا يُقرأ وإنما يُسمع، ولو كانت في عهده أجهزة تسجيل لسجّل شعره بدلاً من طبعه».

وعبارة العقّاد تحمل في طياتها حكماً نقدياً على شعر حافظ وإدانة قاسية له بسبب خطابيته واحتفائه بالمباشرة وخلوّه من التحليق والتأمل وفاعليات الخيال التي قمعها حافظ، درءاً لشبهة الغموض وسعياً إلى توسيع دائرة جمهوره لكي تضم كل المصريين والعرب المعاصرين له.

* شاعر وكاتب مصري