ذكرت في الحلقة السابقة أنني سألجأ إلى طريقة مبتكرة لإقناع أهل قبيلتي بالتلفاز وأهميته، وبالفعل دعوتهم إلى حفل عشاء، وفي المساء احتشد رجال القبيلة في ديوانيتي، التي كانت بمنزلة غرفة كبيرة من الخشب مقامة خارج حوش البيت، كما كان يفعل أقراني أبناء البادية في ذلك الزمان، وأخذوا «يهرجون» عن غزوات أسلافهم، ويسترجعون أشعار الفرسان ويطقطقون بمسابحهم، وحينما اختلفوا حول إحدى القصص غافلتهم وأزحت بسرعة قطعة القماش عن شاشة التلفاز، وأدرت مفتاح التشغيل ورفعت الصوت قليلاً، وكان المشهد ينقل لقطة لبطل مسلسل «وضحاء وابن عجلان» أمين عجلان، الذي يقوم بدوره الفنان عبدالمجيد مجدوب، وكان يمتطي حصانه ويجندل الأعداء، ويصيح صيحات الحرب، بينما معشوقته (وضحا) (سميرة توفيق) تزغرد له قرب بيت الشعر، وفجأة قطع رجال قبيلتي المتحلقون في الديوانية حديثهم، وأنشدّوا بدهشة مذهلة إلى ما يحدث أمامهم في الشاشة الصغيرة، وأخذ بعضهم يشجع البطل، وآخر يحذره من الفارس الذي جاء يطعنه من الخلف، وكان عمي هو أكثر الحاضرين انفعالاً مع ما يحدث أمامه، بل انه أخذ «ينخى» البطل، ويقول له: عشت لا شُلّت يمينك. ايه ايه... وفي نشوة انفعال ضيوفي مع المسلسل قمت بكل لؤم مصطنع وأطفأت التلفزيون، فأخذوا يصرخون بي «لأ لأ لأ» دعنا «نشوف» وهنا حانت الفرصة المناسبة، وقلت لهم بصوت مسموع يا أبناء العم هذا هو التلفزيون هل هو مفيد أم ضار؟ فصاح أغلبهم «لا بالله انه زين» شغله، شغله، فشغلت التلفزيون ثانية، وكانت وضحا (سميرة توفيق) بجمالها الأخّاذ وعينيها الفاتنتين، التي تفخر بها بعض الأحيان، تتغنى بحب فارس العشيرة ابن عجلان، فكاد رجال قبيلتي أن يصابوا بالاختبال للفروسية والجمال، فقلت لهم ثانية هذا هو التلفزيون، استمر المسلسل بأحداثه المشوقة، التي نقلت ضيوفي إلى عالمهم المفقود (الصحراء والمضارب والفروسية والجمال واندمجوا مع أحداث الفيلم، حينها قال أحدهم، والذي أصبح صديقاً حميماً لي طوال حياته إلى أن توفاه الله قبل عامين، وكان موجهاً كلامه إلى رجال قبيلتي: أما قلت لكم: إن سليمان «نشمي وعاقل ويفهم أكثر مما نفهم»، ولو لم يجد بالتلفزيون «فود» لما اشتراه، بالطبع لم يعلّق أحد حتى انتهت حلقة وضحا وابن عجلان، ثم قال أحدهم إن وضحا زوجة ابن عدوان نمر وليس ابن عجلان، إن التلفزيون «ما عنده سالفة»، التلفزيون غلطان، فقلت لهم: يا قوم إن «وضحا اللي بالتلفزيون ما هي وضحا زوجة نمر بن عدوان»، بل إنها وضحا أخرى من أهل الجنوب وسوف تعرفون ذلك في الجمعة القادمة.

Ad

بعد انتهاء المسلسل كان من حسن حظي أن يُطلّ الشيخ علي الجسار في حديثه الأسبوعي، الذي أنصتوا إليه بكل خشوع، وما أن انتهى حتى بدأت نشرة الأخبار، التي شاهدوا فيها أمير البلاد المرحوم صباح السالم وهو يستقبل وفداً من آل السعود الذي يزور الكويت آنذاك، فأيقنوا من تلك الدعوة أن التلفزيون فيه «فائدة... وخير»، وليس كما كانوا يسمعون، لذلك قررت أن أدعوهم مرة أخرى الى تناول القهوة في موعد برنامج «من البادية»، الذي كان يقدمه المرحوم سليمان الهويدي، وبالفعل تم ذلك، إذ ما إن جاء موعد البرنامج حتى دعوتهم ولم أشغّل التلفزيون إلا في بدء البرنامج، وكان أبو صالح سليمان الهويدي، يرحمه الله، يلقي قصيدة عن الربيع في البادية، وكان يصاحبها فيلم عن إبل ترعى ومناظر عن الصحراء، ثم قدم للمشاهد بعد ذلك قصيدة في المقناص للمرحوم مرشد البذال، وعرض معها فيلماً عن القنص والصيد بالطيور، ثم ألقى مفرح الضمني قصيدة في الغزل العفيف، وهكذا توالت فقرات البرنامج وهم يتابعونه بكل اهتمام وانشداد، وما ان انتهى حتى قال عمي: هذا فيه «فنجال وعلوم رجال»، ومن حينها اقتنع أكثر رجال القبيلة بضرورة اقتناء مثل هذا الجهاز - أي التلفزيون - ووضعه في الديوانية لا في حوش «الحريم»، احترازاً للحشمة وحفاظاً على الأخلاق.