Ad

ما حدث أننا أضعنا، في غضون جيلين أو ثلاثة، ما تركه آباؤنا لنا من تراث الحكمة ومن منجزات عقلية وسياسية لا بأس بها حتى بالمقارنة مع بلاد أقرب وأكبر وأضخم وبعضها... أقدم.

اهتز سائق المركب الشراعي سعادة، وهو يسمع أغاني ثورة 23 يوليو، فدهش رهط المثقفين الذي كان يصفق بشيء من الرخاوة لمغن سياسي شاب. المركب الشراعي نفسه كان يميل برقة تعبيراً عن رضاه وسط نيل القاهرة. أما «عطية المراكبي» فلم تكن لديه القدرة على النقاش الطويل عكس «المراكبية» الآخرين الذين يلتقيهم المرء في أسوان. فالقاهرة مدينة قاهرة بالفعل بمثقفيها ومتعلميها وأجانبها الواثقين بأنفسهم زيادة، على نحو ما، لأنهم يستطيعون كسب أي نقاش في معظم الأحوال، بقوة ما لديهم من شهادات عليا ومظهر لامع.

في أسوان تلتقي النوعية نفسها من الناس: بسطاء للغاية، ولكن لديهم الوقت والحرية والحكمة القديمة والشعور بالمساواة الأصيلة فيمتلكون مع العمر الاقتدار على النقاش الطويل وعادة ما يكسبونه أو يدعونك تكسبه بروح المجاملة، وخاصة لو شعروا أنك متكلف و«كبير» أو متكبر بما يكفي لرفض الخسارة في نقاش عادل.

الافتراض الذي يحرك النمط المتكلف من الكتاب، هو أن البسطاء لديهم ذاكرة بسيطة ولسان قصير وعقل لا يشع سوى بقضايا تافهة.

واقع الحال في مصر وأكثر الدول العربية أن البسطاء أكثر حكمة وأوسع حيلة وأشمل في الرؤية عن الأجيال التي تعلمت في المدارس والجامعات العربية والأجنبية. وليس من حق أحد أن يدين ذاكرتهم بالتفاهة والتعلق بالسرديات اليومية البسيطة. وأنت تسمع هذه السرديات في كل وقت من هذا الجيل وذاك، ففي نهاية المطاف تسمح السرديات الصغيرة والأحداث اليومية بقضاء وقت مخصب بالأحداث المثيرة والعادية وأكثر لذة عن مناقشة نجاح وفشل ثورة يوليو مثلاً. والواقع أن ذاكرة الإنسان العربي البسيط أكثر عمقاً بكثير مما يملكه أصحاب الشهادات العالية في يومنا هذا. والأجيال الشابة أكثر ثقة بما تملكه إلى درجة أنها أكثر تعلقاً واحتضاناً للسرديات التافهة والمحشودة بالتجربة المباشرة والوقائع اليومية الصادمة، وبالمماحكات اليومية أيضا.

لنقلها بوضوح وصراحة إننا نحن المتعلمين في الجامعات نعيش على ما منحنا إياه آباؤنا وأجدادنا القريبون. تلقوا تعليماً بسيطاً في المدارس، ولكن الحياة منحتهم حكمة وعمقاً لا يضارعه شيء مما كوناه حتى بعد عمر طويل. كانوا أكثر قدرة على استمداد معارف حقيقية وحية وتوظيفها من أجل الحياة، أداروا علاقاتهم بامتياز مهما كان حيز التناقض في المصالح والتجارب اليومية، وملكوا القدرة على صنع بيوتهم وحياتهم من الغاب أو من الصخر، وفي النهاية، ومهما كانت شدة الحروب التي خاضوها، كانوا أكثر قدرة على الغفران السريع والتسامح المحبب إلى النفس. نحن المتعلمين عصبيون نميل إلى اختطاف الأشياء، نسأل أولاً عن نصيبنا قبل أن نبذل جهداً في إنعاش الحياة والدفاع عنها وتعميرها، تتولى «الفلوس» الكلام بدلا من عقولنا وألسنتنا، وقد لا نسامح أو نتسامح أو نغفر أبداً.

من لديه السرديات الحقيقية التي تصنع الشخصية الخاصة والوطنية إذاً؟

التعليم والسرديات العربية

لننظر في الأمر بطريقة أخرى. لم يكن تاريخ العرب وكل بلد عربي على حدة أعظم كثيراً في الماضي. ولم تكن ظروف آبائنا ولا أجدادنا رائعة، ولا كانت إنجازاتهم تطاول أوروبا أو الشرق البعيد ولا الغرب القريب. ولكن كان لديهم الاستعداد للنضال وكان لديهم الأمل. والحاضر العربي ليس أعظم، ولا إنجازات أجيالنا الحاضرة أروع، وهي إن وجدت فهي أبعد شقة عما أنجزه الشرق البعيد والغرب القريب، رغم أن ظروفنا أفضل كثيراً، على الأقل بفضل شيء لم نكتشفه ولم ننتجه ولم نصنعه، وهو النفط.

ماذا حدث إذا؟ لدينا التعليم والثروة، ولكن ليس لدينا -أتحدث عن الأجيال الحالية ممن يتوسدون قمة المجتمع العربي الراهن- لا الحكمة ولا حسن التدبير ولا الرغبة في التعلق بالسرديات الملهمة حقاً في تاريخنا القديم والحديث. بصراحة لم ننجز شيئاً بينما نحصل على الكثير. لماذا؟

نظرية أولى: لم نرث شيئا نبني عليه، غير تاريخ الاستعمار الغربي الطويل، والتخلف الطويل المدى جداً، والجمود الذهني، ونزعة إلى «الفشخرة الفاضية» تنضح بروح الشعارات الصارخة أو الكاذبة. غير صحيح، وهي نظرية معكوسة تسقط حاضرنا على ماضينا. فقد ورثنا الاستقلال وتراثا طويلا من النضال الوطني والقومي واجتهادات حكيمة، بل وبعضها عظيم ولا يقل في خصوبته عما شهدته الأجيال المماثلة في الشرق البعيد والغرب القريب. ما حدث أننا أضعنا، في غضون جيلين أو ثلاثة، ما تركه آباؤنا لنا من تراث الحكمة ومن منجزات عقلية وسياسية لا بأس بها حتى بالمقارنة مع بلاد أقرب أكبر وأضخم وبعضها أقدم.

نظرية ثانية: تراكمت علينا الهزائم فغرست في قلوبنا اليأس وفي عقولنا نمطا عجيبا من احتقار الذات العربية القومية والوطنية. وإن سألت أي عربي متعلم عن شعبه فسوف يفيض بالشكوى والإدانه، بل وبالبغض، أحياناً.

غير أن هذه النظرية فيها عيب واضح، وهو أننا صنعنا هزائمنا بأنفسنا، ولا يمكن أن يغسل أحد يديه من المسؤولية. فكلنا شركاء في ما حدث لنا وبنا. (يقول المثل الشعبي عندما يتنكر واحد من مسؤولية جماعية «دفناه سوا» أي معا). وتاريخنا أو تاريخ هزائمنا ليس صداما أو تراكما تعسا لمصادفات غير سعيدة، إنه ما صنعناه نحن بأنفسنا وببلادنا.

نظرية ثالثة أكثر شيوعاً وذيوعاً وشهرة: المؤامرات الغربية. الشرق الأوسط أو قلبه العربي تحديداً مستهدف أكثر من غيره من مناطق العالم من جانب الغرب وغيره لأننا عرب ومسلمون، أو لأن موقعنا الجغرافي لعنة ونقمة.

لا يبدو ذلك صحيحاً بدوره، أو على الأقل ليس صحيحاً من حيث المظاهر والنتائج. فهذه النظرية تفترض أننا عشنا تجربة أكثر صعوبة وأشد وطأة مما شهدته مناطق العالم الأخرى البعيدة عن وسط أو خصر العالم. ولنأخذ بلداً مثل كوريا شمالاً وجنوباً. كوريا عاشت حروباً ضروسا وأشد وطأة حتى من الصراع العربي-الإسرائيلي. ولكن الثانية صارت متفوقة تجارياً حتى على الغرب، بينما الأولى وهي شديدة الفقر اثبتت اقتداراً عسكرياً كبيراً وكانت قادرة على الدفاع عن نفسها ضد هجوم أشد قوة وأكثر شراسة بكثير مما شهدناه في تاريخنا العربي الحديث. بلاد مثل الأرجنتين والبرازيل، اللتين تنافسان الآن في الصناعة والتجارة العالمية، شهدتا استبداداً أقسى في الداخل وهيمنة أعتى من الخارج. وتشيلي شهدت المرضين معاً، وصارت في غضون أقل من ثلاثة عقود إحدى أكثر التجارب الاقتصادية والثقافية نجاحاً. ولم نحقق أدنى نجاح بالمقارنة مع هذه التجارب.

نظرية رابعة: تضمر الاحتقار للإنسان العربي البسيط بالتركيز على الأمية والجهل والمرض والفقر وغيرها من أمراض التخلف. إشارات مجانية، ومجانبة للحقيقة في أكثر من جانب. الصين كانت أسوأ في كل هذه المؤشرات حتى نجاح ثورتها الوطنية، وماليزيا كانت أقل تحضراً حتى من أبسط بلادنا العربية حتى طارت إلى سماء الصناعة والتكنولوجيا والعلم الحديث، ويمكننا أن نمضي في ضرب الأمثلة لبيان خطأ هذه النظرية بالمقارنات العالمية. أما بالمقارنات المحلية فالأمر أكثر وضوحاً. الإنسان العربي البسيط، هو الذي يذهب إلى الانتخابات العامة بينما لا يذهب المتعلمون المتكلفون والساخطون عن بعد وبلا حركة أو فعل، الإنسان العربي البسيط أكثر رغبة في العمل وتحمل المشاق، بينما لا يبدي المتعلمون الاستعداد نفسه، والإنسان البسيط أقل استعداداً للتعصب والعنف، بينما ينضح المتعلمون المتكلفون بالتعصب وبالاستعداد للخصام والحرب. الإنسان العربي البسيط أقل أنانية بكثير، وهو على أي حال لا يحصل على شيء من الثروة الوطنية والقومية، بينما المتعلمون المتكلفون أكثر أنانية ويحصلون على كل شيء رغم أنهم أقل عطاءً في العمل.

نظرية أخيرة: ما حدث في العالم العربي هو نوع من لعنة خلدونية مبكرة.

تحصل الطبقة الوسطى العليا في العالم العربي الآن على امتيازات المولد وعلى النصيب الأكبر من الثروة والدخل من دون عطاء أصيل مقابل، ولذلك ظهرت على هذه الطبقة أعراض جشع مرضية ونعومة أشد سخافة مما نراه لدى أبناء الطبقات العليا في البلاد الغنية والمتقدمة، ونزعة مُتعوية لا تشبع، ونمط استهلاك تافه لا يمنح الإنسان التجربة ولا ينمي قدرات حقيقية ولا يوسع الخيال ولا يطلق نعمة العقل المنطلق والسابح في فضاء المعرفة ولا يحفز رغبة في العمل الشاق. ولذلك تفيض هذه الطبقة بالشكوى وتميل إلى التعصب وضيق الأفق وقلة التسامح.

تنبأ ابن خلدون بهذه اللعنة في مرحلة تالية لوصول الحضارات والدول إلى قمة الإنجاز بفضل التقشف والرغبة في العمل الشاق والتنظيم المنضبط (الأمر المهم في العصبية) فتبدأ الأجيال التالية في التنعم بعائد هذه الخصال في الوقت الذي تفقدها فيه وتهدر ما صنع عظمة الأجداد.

الإنسان العربي البسيط لا ينعم بهذا كله، ولذلك فما زالت قضاياه حقيقة وأفقه أكثر اتساعا وعقله أكثر رجاحة بالمقارنة معنا نحن أبناء المدارس والجامعات العربية والأجنبية على السواء.

 

كاتب ومفكر مصري