حديقة الإنسان: مكان شاغر على القمة

نشر في 02-05-2008
آخر تحديث 02-05-2008 | 00:00
 أحمد مطر

كتاب «طريق التبغ» لـ«أرسكين كالدويل» بجملته درس لكل كاتب، فهو يقرر أن على من يريد أن يكون كاتباً، أن يكون مخلصا للكتابة حتى الرمق الأخير، على الرغم من كل العوائق والمُحبطات. ولعل جوابه القصير عن سؤال حول مقدار المال الذي يكسبه من عمله، يبين لنا بإيجاز المعنى الكبير للرسالة التي تضمنها الكتاب.

تلقى الكاتب الشهير رسالة من كاتب ناشئ، يشكو فيها بمرارة من ثقل شعوره بالإخفاق على الرغم من بذله غاية الجهد، قائلاً إنه قد أرسل العديد من قصصه القصيرة إلى جميع المجلات المعروفة، لكنه، مع طول انتظاره، لم يحظ بنشر أي واحدة منها، الأمر الذي جعله يفقد الثقة بنفسه، ولأنه لا يعرف ماذا يصنع، فقد توجه إليه طالباً منه النصيحة.

وقد ردّ عليه الكاتب الشهير قائلاً: هناك دائما مكان شاغر على القمة لكاتب جيد جديد، والطريقة المثلى للوصول إلى هناك هي أن تبدأ من أسفل السفح، وإذا لم تكن ممن يروق لهم الابتداء من الأسفل، فهذا يعني أنك لست ممن يروق لهم اتخاذ الكتابة مهنة. وعلى أي حال، فإن هناك آلافا من الصحف الأسبوعية، والمطبوعات التجارية، والمجلات الصغيرة، والمنشورات الإعلانية، ولابد لمن كانت لديه درجة معقولة من القدرة على الكتابة، أن يجد، ذات يوم، فرصة للنشر في واحدة منها.

وإذا كان أهم شيء في حياتك هو أن يظهر عملك بالأحرف المطبعية، فإن الأمر سيبدو لك جيداً، مهما كان المكان الذي يظهر فيه، وإذا بدا ذلك العمل جيدا للقارئ أيضا، فإنك لابد أن تجد كثيرا من المحررين والناشرين الذين يرغبون في مساعدتك على الصعود قُدُما إلى القمة.

تلك هي نصيحة الروائي الأميركي الكبير «أرسكين كالدويل» صاحب «طريق التبغ»، لواحد من قرائه المتطلعين إلى أن يكونوا كُتّاباً، وقد جاءت في سياق رده على مجموعة من الأسئلة الشائعة التي تجمعت لديه عبر سنوات عمله، فأفرد لها فصلا ختاميا في كتابه «سمِّها خبرة»، الذي روى فيه تفاصيل تجربته الشخصية في تعلم الكتابة.

والواقع أن تلك الإجابات هي ليست سوى خلاصات لوقائع تجربته المريرة التي حفر خلالها الصخر بأظافره، من أجل أن يستوي أخيرا على مقعد الشهرة والاكتفاء المالي، إنه لا يطرح المواعظ الجوفاء من برجه العاجي، لتطمين أبناء الشقاء المتزاحمين في أسفل المبنى، ولكنه يخبرهم بتواضع خالص، بأنه كان واقفا، ذات يوم، في منزلتهم، وقد اقتضاه للوصول إلى موقعه الحالي أن يدفع كل الضرائب المترتبة على من يبتغي الوصول... وهي كما يرويها كانت ضرائب فادحة، أي أنه يقول لهم باختصار: «من الممكن أن تصبحوا مثلي اليوم، إذا استطعتم أن تكونوا مثلي بالأمس».

لقد عاش هذا الرجل أعواما طويلة وهو جالس وراء آلته الكاتبة، كل يوم، في البرد أو في الحر، لينتج مئات القصص ويرسلها إلى مئات المطبوعات، لتلقى نهايتها في سلال المهملات، من دون أن يداخله اليأس أو الملل، وكان عاما بعد عام، يختصر نفقات الطعام، ليزيد من نفقات الطوابع التي يحتاجها لإرسال قصصه.

والعمل الوحيد الذي استطاع أن يحصل عليه، من أجل أن يعيش، هو كتابة عروض سريعة للكتب الجديدة، لحساب إحدى المجلات التي كانت ترسل إليه رزماً منها كل شهر، غير أنها بدلا من أن تدفع له مالا نظير ما يكتبه، كانت تسمح له بأن يحتفظ بالكتب المرسلة إليه، فكان بدوره يبيع بعضها لتجار الكتب المستعملة مقابل بضعة سنتات لكل كتاب.

وللمرء أن يتخيّل بشاعة ما كان يعانيه من فاقة، حين يقرأ البهجة العارمة في السطور التي يصف فيها ذكرى نشر أول قصة له، وتلقيه ثلاثة دولارات مكافأة عنها من المجلة التي نشرتها، إذ يقول: «لقد أتيح لنا في ذلك اليوم أن نتذوق طعم اللحم، بعد زمن طويل من الحرمان»!

والكتاب بجملته درس لكل كاتب، فهو يقرر أن على من يريد أن يكون كاتباً، أن يكون مخلصا للكتابة حتى الرمق الأخير، على الرغم من كل العوائق والمُحبطات.

ولعل جوابه القصير عن سؤال حول مقدار المال الذي يكسبه من عمله، يبين لنا بإيجاز المعنى الكبير للرسالة التي تضمنها كتابه.

يقول أرسكين كادويل: «ليس لي دخل منتظم، لأن ما أكسبه يعتمد على المكافآت التي أتقاضاها لقاء ما أكتبه. فأحيانا أكسب عشرة دولارات في عام كامل، وأحيانا أكسب ثلاثة آلاف دولار في أسبوع»!

والمعنى الكامن وراء هذه الإجابة هو أنه ليس مهمّاً أن يكون النشر منتظراً لدى الباب، وليس مهمّاً أن يكون المكسب في متناول اليد... بل المهم هو أن تكتب وتكتب وتكتب، مضمراً في قرارة نفسك أن الكتابة، بحد ذاتها، هي الوسيلة والغاية معاً.

* شاعر عراقي

back to top