من أين جاءت ثقافة الإرهاب؟

نشر في 19-03-2008
آخر تحديث 19-03-2008 | 00:00
 د. شاكر النابلسي

لعل واجب المثقف العربي في عصر الانحطاط الحالي الذي انتشر فيه الإرهاب بهذا الشكل المفزع والمرعب، أن يكون جندياً حقيقياً في أرض معركة الإرهاب، بتبني المساهمة في تحضير الأذهان، للتكيّف مع متطلبات وضرورات عصره، والدعوة إلى إلغاء المواطنة السالبة.

يلاحظ كثير من الباحثين العرب والغربيين، أن الثقافة العربية المعاصرة، قد تحول جزء كبير منها إلى «ثقافة إرهاب»، سواء كان من قبل مجموعات من المثقفين التي خانت الثقافة العربية المعاصرة، بتحولهم إلى شعراء قبائل، وضمائر دهماء، ومثقفين شعبويين، وكتّاب شعبيين. أو من قبل رجال الدين الذين أطلقوا فتاوى القتل والمصادرة، وأصبحوا الأثداء الدافئة لشرعية الإرهاب والبائعين «الشطّار» لصكوك دخول جنة حور العين، أو من قبل بعض الفضائيات العربية التي تطلق خرافة «الرأي والرأي الآخر»، وما هي في واقع الأمر غير أجهزة إعلامية رسمية للتعصب لرأي واحد أحد، تنتج منه رأياً ورأياً آخر. فهو الرأي الواحد وظله، أما الرأي الآخر الحقيقي فهو مرفوض، وملعون، ومنبوذ، وتأتي به في بعض الأحيان لتسفيهه، وتسخيفه، وتسطيحه، و«شرشحته» بافتخار واعتزاز كبيرين، وأخيراً اغتياله بمسدس الحرية الكاتم للصوت.

مرضعات ثقافة الإرهاب

لقد جاءتنا من ماضينا الممتد في حاضرنا، من انتصار الاتباع على الإبداع، وانتصار الرواية على الدراية، وانتصار القدامة على الحداثة في تراثنا الأدبي والفقهي، وانتصار جهاد الآخر على جهاد النفس العدوانية، وهو أجمل أنواع الجهاد.

لقد جاءتنا هذه الثقافة العنيفة التي تقطر دماً من تقاليد الحروب والمشاحنات القبلية والطائفية، وبطش السلطات الغاشمة قديماً وحديثاً.

جاءتنا من ردود فعلنا الهاذية على احباطاتنا الفردية والجمعية، ومن جروحنا النرجسية، سواء منها المنحدرة من هزائمنا أمام الغرب وإسرائيل، أو الآتية من تربية أسرية قاسية.

والذي زاد من ضراوة هذه العوامل التراكمية، عدم وجود قطيعة ديموقراطية فيها، تؤسس لثقافة جديدة قوامها الحوار والسلام، مثلما حصل في اليابان بانتقالها من ثقافة العنف والانتحار إلى ثقافة السلام، التي بفضلها لم تستنزفها نفسياً صدمة محرقتي هيروشيما وناغازاكي النوويتين، ولم تمنعها من التحالف مع أميركا التي هزمتها عسكرياً، ولا من التأمرك كذلك.

إن غياب القطيعة الديموقراطية لعوامل العنف الدموي التراكمية، جعل صدماتنا تتحالف مع موروثنا الثقافي، لصياغة شخصيتنا النفسية صياغة ث أرية، حوّلت أخذ الثأر في سلّمنا القيمي إلى قيمة اجتماعية، والتسامح والغفران والجنوح إلى السلم إلى وصمة عار وجبن وخيانة، والانفتاح على العالم؛ أي على استثماراته وقيمه تفريطاً في الهوية واقترافاً لـ «أم الجرائم»، وهي التبعية للغرب.

مهمة المثقف في مواجهة الإرهاب

مصطلح «مثقف»، نحته السياسي الفرنسي جورج كليمنصو (1841-1929) زعيم الجمهوريين الراديكاليين، ورئيس وزراء فرنسا (1906-1909)، و (1917-1920)، وهو من نفّذ قانون فصل الدولة عن الكنيسة، وكان سبب نحت هذا المصطلح، لتسمية نفر من «الصهاينة الفرنسيين» منهم إميل زولا، ومارسيل بروست، وأندريه جيد، الذين انتصروا للضابط الفرنسي اليهودي دريفوس، الذي لفقت له قيادة الجيش الفرنسي تهمة التخابر مع العدو الألماني، فحكم عليه القضاء العسكري بالنفي إلى «جزيرة الشيطان»، وشقَّ هؤلاء الكتّاب عصا طاعة الأمة، وطالبوا بإعادة محاكمة دريفوس، وتمَّ العفو عنه، ومنذ ذلك الوقت، أصبح المثقف يدافع عن الحقيقة ضد الأمة، وعن الفرد ضد المؤسسات. ولعل واجب المثقف العربي في عصر الانحطاط الحالي الذي انتشر فيه الإرهاب بهذا الشكل المفزع والمرعب، أن يكون جندياً حقيقياً في أرض معركة الإرهاب، بتبني الخطاب التالي:

1 - المساهمة في تحضير الأذهان، للتكيف مع متطلبات وضرورات عصره.

2 - الدعوة إلى إلغاء المواطنة السالبة المحرومة من حقوقها العامة، وإقامة المواطنة الموجبة الداعية إلى تحويل كل المواطنين، بغض النظر عن ديانتهم وعرقهم وطائفتهم إلى مواطنين لا رعايا، متساوين في الحقوق والواجبات مع باقي المواطنين الآخرين. وذلك طبقاً لـ «إعلان حقوق الإنسان» الصادر عام 1789 الذي نصّت مادته الأولى على «إن الناس يولدون أحراراً ويظلون أحراراً متساوين في الحقوق».

3 - الدعوة إلى ردم الفجوة التاريخية بين الدولة الطائفية ودولة ما بعد القومية، إلى حيث تصبح الأمة الدولة تطويراً غير مسبوق لمواطنة عابرة للقوميات والإثنيات والديانات والطائفيات. ولكي يكونوا جميعاً ناخبين ومنتخبين على كل الأصعدة، وفي جميع المجالات.

4 - التمتع بالشجاعة والجرأة الفكرية والسياسية الكافية، لطرح الأسئلة على المشاكل الحقيقية، التي يعاني منها مجتمعه، والتعرّف على الانسدادات المزمنة التي تشلّ الفكر، وتُغيّب العقل، وتسبب العُقم في المواهب، وتطرد الأدمغة المفكرة خارج حلبة الأوطان.

5 - القيام بإنتاج الفكر النقدي، الذي يساعد على الانتقال من القطعي إلى المبرهن عليه، ومن المسلم به إلى المتناقش فيه، ومن القراءة العابرة للتاريخ إلى القراءة التاريخية للنص، لجعله في متناول العقل، ومتكيفاً مع متطلبات الحياة الاجتماعية.

6 - تبنى القطيعة الجارحة مع التراث، فالحضارة الحديثة ابنة لثلاث قطائع أورثت الوعي الأوروبي ثلاثة جروح نرجسية: اكتشاف غاليلو لكروية الأرض، وداروين لنظرية التطور، وفرويد للاشعور، وهكذا لم تعد الأرض مركز الكون، ولا الإنسان مركز الكائنات، ولا العقل سيد بيته، بل اتضح أنه محكوم باللاعقل؛ أي اللاشعور.

7 - تنشيط ذكاء قارئه، وعدم تخديره بتقريض أوهامه عن نفسه، وهذه مهمة نقدية أولاً، تكون على الكاتب أن يجدد دوماً، ومهمة المثقف الاصطدام دوماً بالأحكام المسبقة، وبالأخطاء الشائعة، وبمصالح النخب الحاكمة والأصولية.

8 - ألا يكون مثقفاً شعبياً يتملق جمهوره، ولا يسمعه ما يريد أن يسمع، ولكنه يسمعه ما يجب أن يسمع.

9 - أن يكون إلى جانب الحداثة، فالمثقف تعريفاً هو مع الحداثة وضد القدامة، ومع العقل ضد النقل، ومع التجديد ضد التقليد، ومع الديموقراطية ضد التوتاليتارية، ومع حرية المرأة ضد استعبادها.

10 - عدم التعبير عن ضمير الأمة. إن «تعبير المثقف عن ضمير الأمة» اعتبرته التوتاليتارية الفاشية، الستالينية والنازية «أمراً قاطعاً» بالمعنى الكانتي (نسبة إلى الفيلسوف كانت)؛ أي واجباً أخلاقياً ملزماً، وإلا فالعصا لمن عصى، لأن التوتاليتارية تعريفاً هي تذويب الفرد في الأمة، لجعله نسخة طبق الأصل منها، ينطق بلسانها، ويفكر برأسها الجمعي لا بنفسه، وهي محاولة لا تنتهي وتتجدد، لهدم عمارة المعرفة الحديثة التي جعلت معيار الحقيقة هو التطابق البرهاني مع الواقع، إذ لا حقيقة من دون تحقيق، للتثبت من صحتها أو خطئها، وليس التطابق مع «ضمير الأمة» المسكون بالانفعالات والمخاوف اللاعقلانية، وهذا هو مطلب المثقف الوحيد.

* كاتب أردني

back to top