في الفصلين الرابع والخامس، يسرد مؤلف كتاب «حماس من الداخل» الصحافي زكي شهاب، التفاصيل الخاصة بشيوع ظاهرة العملاء والجواسيس في الأراضي الفلسطينية، وظروف تجنيدهم، إلى جانب العديد من أنماط انتحاريي «حماس».

Ad

الجواسيس

لم تنجح حركة حماس في تطوير قدراتها الذاتية وتوسيع نطاق عملها، ولم يتمكّن جناحها العسكري من تفعيل قدرته على تنفيذ العمليات العسكرية، فقد نجحت الاستخبارات الاسرائيلية في خرق أجهزة الحركة، من خلال دسّ عملاء في صفوفها، ومخبرين داخل المجتمع الفلسطيني.

وقد خطط صانعو الاستراتيجية الاسرائيلية للقضاء على قادة «حماس» النافذين والمؤثرين جماهرياً، لما لهم من دور في الحفاظ على تماسك الحركة، فتمّت تصفية صلاح شحادة والشيخ ياسين والمهندس عبد العزيز الرنتيسي، بناءً على معلومات استخباراتية وفرها عملاء فلسطينيون.

لقد كشفت روايات هؤلاء العملاء عمق الخرق الذي حققته الاستخبارات الاسرائيلية، وطبيعة الأساليب والتكتيكات التي استخدمتها أجهزتها الأمنية، طوال ثلاثة عقود من الوجود الاسرائيلي في غزّة، وفي ظل الاحتلال المستمر للضفة الغربية، لتجنيد فلسطينيين.

وتقدّر المنظمات الأمنية الفلسطينية عدد المتعاونين مع إسرائيل خلال هذه المدّة بما يزيد على عشرين ألفاً.

وعلى إثر الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزّة، اضطر كثيرون منهم إلىة اللجوء إلى داخل إسرائيل خوفاً من التعرّض للانتقام، فأقاموا في قرى بنيت خصيصاً لإيوائهم.

وتكتفي «الجريدة» بنشر سيرة جاسوس فلسطيني واحد من عدة جواسيس، جاء المؤلف على تفاصيل تجنيد اسرائيل لهم.

الجاسوس حمدية

كسب وليد راضي حمدية أموالا طائلة لقاء خرقه صفوف حركة «حماس» وتسريبه معلومات لحساب إسرائيل، لكنه عاد فدفع الثمن مضاعفاً، بما أن حياته كانت مزدوجة، جزاء خيانته!

لقد أعدم حمدية في غزّة بعد اعترافه بعمالته لدى الاستخبارات العامة الفلسطينية، ولاحقاً أمام هيئة محكمة أمن الدولة في غزّة، بأنه زوّد الاستخبارات الإسرائيلية بمعلومات مكّنتها من اغتيال اثنين من قادة كتائب القسّام وكوادر أخرى في «حماس» كانت إسرائيل قد أدرجت أسماءهم على لائحتها السوداء، وذكر منهم ياسر النمروطي، قائد الجناح العسكري في «حماس»، الذي اغتيل عام 1992، وعماد عقل الذي استشهد عام 1993، ومروان الزايغ وياسر الحسنات ومحمد قنديل الذين قتلوا معاً، في حيّ الصبرا في غزّة، في الرابع والعشرين من مايو 1992.

وكان حمدية يتمتع بصفة مسؤول جهاز الدعوة في حركة «حماس» في بداية الثمانينيات، أنهى دروسه في الجامعة الإسلامية وانتمى إلى مجموعة أطلقت على نفسها اسم المجمّع الإسلامي، الذي أنشأه وترأسه الشيخ أحمد ياسين. كان هذا المجمع مركزاً لحركة الإخوان المسلمين في غزّة، وبمنزلة سلف لحركة «حماس».

تعهد حمدية للشيخ ياسين بأنه «سيبقى وفياً للحركة الإسلامية»، وأقسم بجملة سريّة يستخدمها الناشطون الإسلاميون للاتصال في ما بينهم، أريد منها أن تشكل جملة ترحيبية، هي «كيف حال الأقصى؟»، فيأتي الجواب «الأقصى جريح»، في إشارة إلى المسجد الأقصى في القدس.

في عام 1986، تأججت الخلافات بين ناشطي حماس الناشئين وبقية المنظمات الفلسطينية بما فيها «فتح»، فتورّط حمدية في عراك مع أسعد الصفطاوي، وهو أحد الناشطين في «فتح» في غزّة. نتيجة لذلك، داهمت الاستخبارات الإسرائيلية منزله صباح السادس من شهر أكتوبر 1987، فاعتقل واقتيد إلى سجن غزّة المركزي لإخضاعه للاستجواب. هناك، وُضع أمام خيارين: إما التعذيب وإما العمالة، فأذعن للخيار الثاني. عندها زوّده ضابط استخبارات إسرائيلي يدعى «ميني» برقم هاتفه، وبعد أقلّ من أسبوع، أطلق سراحه.

بعد مضيّ أسبوعين، تلقى حمدية أمراً للقاء ميني أمام سجن أبو كبير في تل أبيب. عندما وصل ضابط الاستخبارات، أشار إلى حمدية باللحاق به إلى مبنى قريب، في شقة في الطابق الثاني، وجد ضابطا آخر يطلق على نفسه اسم «أبو حديب»، باشر باستجواب حمدية مركزاً أسئلته بشأن قادة الحركة الإسلامية.

ووفقاً لما ورد في نص اعترافات حمدية، فإنه ذكر العديد من الأسماء، منها أسماء الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وخليل القوقا، وواصل حمدية تزويد الاستخبارات الإسرائيلية بالمعلومات حتى تاريخ الإعلان عن تأسيس حركة حماس في ديسمبر من عام 1987، إثر اندلاع الانتفاضة الأولى. لقد شارك حمدية في كثير من فعاليات الانتفاضة، فاعتقل في شهر أغسطس 1988 وبقي محتجزاً طوال سبعة أشهر، برغم عمله لحساب الإسرائيليين، لكنه أوضح أن الغاية الإسرائيلية من اعتقاله هي خلق انطباع داخل حماس «بأنني واحداً منهم، إبعاداً للشبهات».

وحدّد ضابط الاستخبارات ميني موعداً آخر له في تل أبيب، لكن هذه المرة في فندق، وأثناء هذا اللقاء، تعرّف حمدية إلى ضابط رفيع الرتبة اسمه «أبو صقر»، فخاض معه في حديث طويل تناول الوضع في غزّة وواقع الحركة الإسلامية في القطاع، وفي ختام الاجتماع، أعطى أبو صقر حمدية مبلغ 150 ألف شيكل، أي ما يعادل 30 ألف دولار أميركي، وطلب منه استخدام اسم «أبو جعفر» في الاتصالات التي سيجريها مع الاستخبارات الإسرائيلية.

في مطلع شهر مايو 1989، فوجئ حمدية بتعرّض منزله لغارة جوية وتمّ اعتقاله مجدّداً، فيما أفاد ضابط الاستخبارات ميني أبو جعفر بأنه ألقي القبض على مجموعة كبيرة من قادة حماس، وتمّ سجنهم في معتقل «أنصار 2» في غزّة. بعد عدّة أيام، استدعي حمدية إلى جلسة استجواب حضرها ميني وقيل له بأن كل أفراد الجهاز العسكري لـ «حماس» قد تم توقيفهم، والمطلوب منه تزويد ضابط الاستخبارات بمعلومات عن المعتقلين من «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، فمكث في معتقل «أنصار 2» طيلة أربعة أشهر.

بعد الإفراج عنه بفترة وجيزة، استدعي حمدية للقاء ميني على الطريق الرئيسي في منطقة الشجاعية، وصل ميني على الموعد في سيارة من نوع بيجو 404، وهي السيارة الأكثر شيوعاً في غزّة في الفترة التي سبقت قيام السلطة الفلسطينية، كان معه في السيارة أشخاص آخرون قدّر حمدية أنهم ضباط استخبارات «متنكرون بلباس عربي»، كما كانت السيارة مزيّنة بآيات قرآنية وبسجادة للصلاة، فيما طرحت في أسفلها، بنادق عوزي. جلس حمدية في المقعد الخلفي، قرب ميني الذي تنكر بشعر مستعار وبشارب مزيّف. وأدرك حمدية أن من يراهم «سيحسب أننا مجموعة إسلاميين». ثم وصلوا إلى مستوطنة قريبة حيث قابلوا أبو صقر، فسأل أبو صقر حمدية بنبرة شابها اللوم والإذلال «لماذا لم تبلغ موقعاً قيادياً حتى الآن؟ ففي الجبهة الشعبية يصل العضو إلى مكانة متقدمة في غضون ستة أشهر؟!»، على إثر هذا التوبيخ، عمد حمدية إلى استخدام علاقاته وبعض الوساطات، فترقى إلى مكانة المسؤول عن جناح الدعوة المكلف تسويق ونشر القضية.

لقد أصبح هذا الموقع شاغراً عندما أوقف الإسرائيليون مسؤول جهاز الدعوة السابق في منطقة الشجاعية، مفسحين في المجال أمام حمدية لتولي هذا الدور.

في العام 1991، تقدّم حمدية من الـ «كابتن ميني» باقتراح غريب ظاهرياً، يقضي باعتقاله مرة ثانية، وذلك بهدف التغطية على علاقته المستمرة بالاستخبارات الإسرائيلية. فتمّ توقيفه بالفعل مدة خمسة أشهر، أفصح خلالها عن أسماء جميع أعضاء جهاز الدعوة، تحديداً أولئك الذين كانوا يشاركون في الاستعراضات العسكرية التي كانت تنظم في شوارع غزّة.

بعد ذلك، طلب من حمدية إبلاغ الاستخبارات الإسرائيلية بتحركات بعض الأشخاص المدرجة أسماؤهم على لائحة المطلوبين لدى إسرائيل، والذين كانوا يلجأون إلى منازل آمنة، تلافياً للاعتقال أو للاغتيال.

تمكّن حمدية من الحصول على معلومات عن أحد الناشطين في كتائب القسام يدعى محمد قنديل، عندها، زوّدته الاستخبارات الإسرائيلية بقنبلة موقوتة وبعلبة من الديناميت كي يسلمها إلى قنديل في أقرب فرصة.

وحالما تبلغوا بأن قنديل تسلم هذه المعدات، فجّروا القنبلة التي قتلت قنديل واثنين من قادة كتائب القسّام، الجناح العسكري لـ «حماس»، هما ياسر الحسنات ومروان الزايغ. ويصف وليد حمدية دوره في اغتيال ياسر النمروطي، وفي ملاحقة عماد عقل ومجموعته، ورصدهم في منزلهم في رام الله، على الشكل الآتي «تابعت تحركات ياسر بدقة. لقد اعتاد الحضور إلى منزلي. أعطاني مبلغ 5 آلاف دولار أميركي لشراء عتاد وتمويل نشاطات المنظمة في منطقتي، فأبلغت مرجعي الإسرائيلي بأن النمروطي طلب مني تزويده ببندقية وقنابل موقوتة، فأعطاني الضابط الإسرائيلي إياها.

بعدما غادر ياسر منزلي، لاحقته الاستخبارات الإسرائيلية حتى وصلوا إلى مكان بعيد عن منزلي، فتمت تصفيته في خان يونس في 17 يوليو 1992. ثم كافأتني الاستخبارات الإسرائيلية بمبالغ كبيرة من المال لقاء خدماتي».

بعد مرور أربعة أيام على قتل النمروطي، قرّرت الاستخبارات الإسرائيلية اعتقال حمدية مرة جديدة، فسجن مدّة أربعين يوماً.

ويتابع حمدية اعترافه قائلا «بعد خروجي من السجن، قال لي النقيب الإسرائيلي أبو أمجد: «لقد فوّت على نفسك فرصة». كان عزّ الدين الشيخ خليل الذي اغتيل لاحقاً على يد جهاز الموساد في دمشق، قد تسلم مسؤولية جهاز الدعوة بدلا منه، فقرّرت الاستخبارات الإسرائيلية اعتقال حمدية حتى تتسنى له فرصة المطالبة باستعادة موقعه، فتمّ اعتقاله مجدّداً، وأبعد إلى منطقة مرج الزهور في جنوب لبنان مع أربعمئة قيادي من حركة حماس.

قال له الضابط، وهو يسلمه خمسة دنانير، إن هذا الإبعاد مؤقت، على ورقة الخمسة دنانير من دوّن رقم هاتف وجب على حمدية استخدامه للاتصال به.

بعد عودته من لبنان إلى غزّة، تلقى حمدية تعليمات لملاحقة القيادي البارز في «حماس»، عماد عقل. كان حمدية على علم بتردّد عماد بشكل دوري على منزل نضال فرحات.

لقد قال له مرجعه الإسرائيلي إن الجميع في إسرائيل، من أصغر إنسان وصولاً إلى رئيس الوزراء، يطالب برأس عماد عقل. وفي حضور عدد من ضباط الاستخبارات الإسرائيلية من أصحاب الرتب العالية، عُرضت عليه مكافأة قدرها 500 ألف دولار أميركي مقابل رأس عقل.

قال حمدية «أبلغته سلفاً أن عقل موجود في منطقة الشجاعية في منزل فرحات». فطلب منه شراء سروالين من نفس اللون، ثم أخذوا واحداً منهما ووضعوا في الثاني جهاز تنصت صغير، وطلبوا منه ارتداءه عندما يقوم بزيارة فرحات في منزله، حتى يتسنى لهم التنصت على الحديث.

زار حمدية عماد عقل خلال شهر رمضان، وروى كيف أقاما صلاة المغرب معاً «كان عماد صائماً، فتناولنا طعام الإفطار على سطح المنزل، فجأة، حاصر الجيش الإسرائيلي المنزل من كل الجهات. عندما حاول عماد إطلاق النار، أصابته قذيفة إسرائيلية، بقينا محاصرين طيلة ساعتين، ثم طلب الجيش الإسرائيلي من جميع الموجودين في المنزل الخروج منه. عندما خرجت، صاح الجنود الإسرائيليون « نريد هذا!» وهم يشيرون إليّ. أخذوني بعيداً في سيارة وسألوني عمّا جرى داخل المنزل، قلت لهم إن عماد عقل قد مات».

طلب الإسرائيليون من حمدية خلع السروال حتى يستعيدوا جهاز التنصت وأعطوه السروال الآخر، وتمت مكافأته بخمسة آلاف دولار.

الشهداء... وعاطفة الوالدة

محمد ورواد ونضال، جميعهم مقاتلون في كتائب القسّام، استشهدوا من أجل قضيّتهم. رشّحت «حماس» والدتهم لأول انتخابات نيابية فلسطينية، ففازت بمقعد في المجلس التشريعي الفلسطيني، وذلك بعدما أصبحت مريم فرحات، أو أم نضال، كما تسمّى، رمزاً بالنسبة لمناصري «حماس» في قطاع غزّة، وذاعت شهرتها وشعبيتها لتأييدها المطلق قرارات أبنائها. إن أم نضال أرملة شرطي سابق، تبلغ السادسة والخمسين من العمر، لها أربع بنات متزوجات وستة أبناء، ثلاثة منهم قضوا في عمليات استشهادية، ورابع معتقل، واثنان كانا لايزالان، حتى تاريخ لقائي بها، يشاركان في أعمال المقاومة المسلحة في قطاع غزّة. رغم مصابها الأليم، فهي لا تبدي ندماً على ما بذلته من تضحيات.

قابلت مريم فرحات في منزلها في 24 يناير 2006 عشية الانتخابات التشريعية الفلسطينية، قالت لي إن ابنها محمد قد ائتمنها على سرّ العملية الاستشهادية التي عقد العزم على تنفيذها قبل وقت طويل من تكليفه بها، وتصف أم نضال بـ «المناسبة المهمة جدّاً» يوم عاد ابنها محمد إلى المنزل حاملا مسدساً، في إشارة إلى انخراطه في الجناح العسكري لـ «حماس»، وبداية رحلته نحو الشهادة. أقرّت أنها قد شجعته، منذ ريعان شبابه، على استخدام الأسلحة عوضاً عن الحجارة، في مهاجمة الدوريات العسكرية التي تزرع طرقات حيّ الشجاعية، حيث يقيمون، ذهاباً وإياباً. لقد دخلت مقاومة إسرائيل في يوميات هذه العائلة، حتى صارت تشكل فصلاً حميماً من حياتها. وتتجلى هذه الممارسة واضحة على جدران المنزل، فمن أحدها تتدلى قطعة من السياج الشائك القائم حول المستوطنة اليهودية انتزعها ابنها قبل ساعات من وفاته.

تتذكر أم نضال بفخر ٍمشوب ببعض الحسرة، مساء ذاك الخميس، في 7 مارس 2002، عندما دخل محمد، البالغ من العمر تسعة عشر عاماً، قاعة كلية للدراسات الدينية والتدريب العسكري في غوش قطيف في مستوطنة أتزمونا. أسفرت العملية التي نفذها محمد عن قتل خمسة طلاب في الثامنة عشرة من عمرهم وجرح ثلاثة وعشرين آخرين.

تحوّل منزل محمد عندئذ، إلى محجة لأعداد كبيرة من الرجال والنساء الذين أدرجوا أسماءهم على لائحة المستعدين للشهادة.

وتستعيد والدة محمد كلماته وأفعاله في آخر أيام حياته، كأنها مسجلة على شريط مصوّر في ذهنها تستخرج منه، متى أرادت، الأحاديث التي تبادلاها آنذاك. لقد بدأت أم نضال تبكي خسارة ابنها قبل ثلاثة أيام من تنفيذه العملية، فكانت تدخل إلى غرفته في الصباح الباكر لتتأمله في نومه، «كان وسيماً جداً، لقد اعتدت أن أفكر أنه يجب عليه الموت شهيداً ليعيد لله جزاءَ ما منحه إياه، كرمى لله، حذفت كل عواطفي الأمومية. فلو أذنت لدموعي بالتحكم بي، لما كنت سمحت لأي من أبنائي أن يختار درب الشهادة».

بكت عندما قرأ وصيته

وتتذكر أم نضال أنها بكت عندما قرأ وصيته، حين رفع نظره إليها ورأى دموعها، راح يضحك وهدّدها بإلغاء مهمته، فقالت له «أنا أمك! ليس من السهل عليّ أن أطلب منك الرحيل، إني أبكيك ليل نهار، لا تسئ فهم دموعي، إنها دموع أم ستزوّج ابنها لحوريات الجنة الجميلات. عليك إطاعة أوامرك ومواصلة قتالك إلى أن تلقى ربّك». وعندما حان الوقت، تبادلا كلمات الوداع، فقالت له: «صوّب جيّداً»، ثم غادر، لم يذرف دمعة، رحل مبتسماً. إنه أول أبنائها الاستشهاديين. لقد بدا متماسكاً وهادئاً. تصف أم نضال الساعات ما بين مغادرته المنزل وسماعها نبأ وفاته، بأنها لحظات «لا تطاق»، «بدا لي كأنني أتنفس نفسه هو»، لقد قلقت من احتمال تعرّضه للتوقيف قبل أن «يتمجّد بالشهادة»، وشعرت براحة مطلقة عندما بلغها خبر نجاح مهمة ابنها، لقد سألتها كيف تمكنت من مساندة ابنها لينفذ عملاً سيودي بحياته وبحياة آخرين، فأجابتني «كنت شريكته في الجهاد. هذا أمر طبيعي. ليس بالشيء المميّز كما يظن الناس»، قد لا يفهم السواد الأعظم من الآباء والأمهات مثل هذا التصميم، لكنني أعتقد أنه من المهم إبرازه وتوثيقه، لأنه يبيّن عمق التناقضات السيكولوجية، ومدى التجاذبات العاطفية التي تجعل من الصعب للغاية، فهم هذا الصراع النفسي الداخلي.

كان وسام، أحد أشقاء محمد الذين لايزالون على قيد الحياة، جالساً إلى جانب والدته، يهزّ برأسه مؤيداً كلامها.

قال لي إن أم نضال شجعته هو أيضاً على تنفيذ عملية استشهادية، إلا أن الأمر باء بالفشل، فقد ألقي القبض عليه عام 1993 وهو في طريقه لاستهداف مستوطنة «بير شيفا» أو «بئر السبع»، في صحراء النقب جنوب الخليل، لقد أطلق سراحه أخيراً، بعد قضائه ما يزيد على عشر سنوات في سجن إسرائيلي.

ثم سألت أم نضال، بصفتها أماً لأربع بنات، إن كانت تؤيد تنفيذ النساء عمليات استشهادية، فأجابت «إن الجهاد متاح أمام الجميع. وليس باستطاعة أحد أن يردع رجلاً أو امرأة عازمين على الجهاد، إن دعم امرأة لتنفذ عملية جهادية غير مشروط، فإن كانت عملية من هذا النوع تستلزم وجودة امرأة، سيكون المجال مفتوحاً أمام النساء للمشاركة فيها»، لكنها شكت من أن الحصار الإسرائيلي المفروض على غزّة يشكّل عائقاً أمام مشاركة العديد من النساء الفلسطينيات في أعمال استشهادية، ثم أردفت قائلة «لا يجب أن نغفل أداء النساء لأدوار داعمة ومؤثرة، منها مثلاً أن تلد أبناء مستعدين للموت في سبيل القضية».

أول امرأة استشهادية هي وفاء ادريس البالغة من العمر سبعة وعشرين عاماً، من سكان مخيم الأمعري للاجئين قرب رام الله. كانت وفاء تعمل أمينة سرّ لدى منظمة الهلال الأحمر الفلسطيني وقد انتسبت إلى كتائب الأقصى، الجناح العسكري لـ «فتح»، ونفذت عمليتها في شارع يافا في القدس، متسبّبة بقتل عجوز إسرائيلي في الواحدة والثمانين من العمر، وبجرح مئة آخرين.

بعد سنتين، تبنت «حماس» ريم رياشي كأول امرأة استشهادية تنتمي إلى صفوفها. حتى ذلك الحين، وبرغم التأكيدات الصادرة عن الحركة بأن الجهاد واجب على كل مسلم أكان رجلا أم امرأة، ساد اعتقاد بأن «حماس» لا توافق على إرسال نساء في هذا النوع من المهمات، لذا، عندما كشف عن اسمها، ظنّ كثيرون بأنها من كتائب الأقصى.

ريم رياشي

إن قصة ريم رياشي مضمخة بالعواطف، وتقول فرحات إنها أدمت قلوب كثيرين عندما علموا أن هذه الطالبة الجامعية، ابنة الاثنين والعشرين ربيعاً والعائلة الميسورة، أقدمت على تنفيذ عمليتها مخلفة وراءها طفلين صغيرين: ابنها ضحى، البالغ من العمر ثلاث سنوات، وابنتها عبيدة، التي لم تتجاوز شهرها الثامن عشر، لقد نجحت ريم بخداع الجنود المولجين مراقبة معبر إيريز على الحدود بين قطاع غزّة وإسرائيل، إذ أقنعتهم بتفتيشها شخصياً، عوض إخضاعها لفحص الماكينة الكاشفة للمعادن، بحجة وجود صفائح معدنية في جسمها قد تسبب بإطلاق صفارة إنذار الماكينة الفاحصة. وبينما وقفت تنتظر وصول جندية تقوم بتفتيشها، فجّرت قنبلة زنة كيلوغرامين عند نقطة العبور، حاصدة حياة جنديين ورجل شرطة حدود ورجل أمن مدني.

قبل استشهادها، كانت ريم قد سجلت شريط فيديو تظهر فيه باللباس العسكري ومعصوبة الرأس بقماشة خضراء، دلالة على انتمائها لحركة حماس، كما كانت تحمل رشاشاً أوتوماتيكياً. لقد قالت مودّعة إنها طالما حلمت، منذ كانت في الصف الثامن، أن «أشلاء جسدها ستتناثر وتمزّق الصهاينة إرباً إرباً، فيما هي تقرع باب الجنة، حاملة جماجم الصهاينة القتلى».

لاتزال فرحات تذكر ردّة فعل نساء أخريات إزاء اختيار ريم لتنفيذ المهمة «أتت إليّ مئات النساء وكل واحدة منهن تشتكي من وقوع الاختيار على ريم لا عليها، لقد ساورتهن الغيرة، فجاءت الواحدة تلو الأخرى، وكلّ منهن تناشدني التوسط لها كي يقع الاختيار عليها بعد ريم».

سادت البلبلة في المجتمع الفلسطيني المحافظ، إذ طرحت علامة استفهام كبيرة: هل مسألة انتقاء النساء لتنفيذ عمليات عسكرية استشهادية توافق أحكام الشريعة الإسلامية؟ فبعدما تبنت كتائب الأقصى وفاء ادريس كأول امرأة استشهادية تخرج من صفوفها، سجل مؤسس «حماس» وقائدها الروحي الشيخ أحمد ياسين، في تصريح له، ما اعتبر تنديداً بهذه الخطوة.

لقد شدّد ياسين على أن للمرأة دورا محددا، يتمثل بالعناية بأسرتها وتربية أولادها، وذلك وفقاً لما يقتضيه فرض الجهاد. وأضاف «أن تقوم النساء بهكذا هجمات داخل فلسطين المحتلة (في إشارة إلى الخط الأخضر العائد للعام 1948) أمر معقد، لأنه يجب على الاستشهادي أن ينام بعيداً عن منزله لأيام وأسابيع عديدة قبل تنفيذه للمهمة، سيكون هذا الأمر صعباً على الفتيات».

في ما بعد، أعلن ياسين أن كلامه لم ينقل على نحو دقيق، فأسيء فهم رأيه في النساء الاستشهاديات. ثم صدر عنه، إثر العملية الاستشهادية التي نفذتها ريم رياشي، ما كان بمنزلة الموافقة على تنفيذ النساء هكذا عمليات: «للمرّة الأولى، استخدمت حماس مقاتلة فلسطينية لتنفيذ عملية ضدّ قوات الاحتلال. إنها استراتيجية جديدة لمقاومة العدو». وأضاف: «لقد سبق لنا وأكدنا أن النساء يمثلن إفادة تكتيكيّة».

يوم الجمعة الواقع فيه 1 يونيو 2001، خارج ملهى «الدولفين» على ساحل تل أبيب، شقّ سعيد العطري طريقه عبر صف طويل من الشبان المنتظرين دورهم للدخول إلى الملهى، وهو متنكر في زيّ مغنية تحمل آلة غيتار محشوّة بالمتفجرات. يومها، قتل واحدا وعشرين شخصاً وجرح ما يقارب مئة آخرين. وفي خطوة مماثلة، دخل عبد الباسط عودة غرفة الطعام في فندق بارك أوتيل على شاطئ مدينة نتانيا، وهو في كامل أناقة امرأة ترتدي سترة من الجلد البني وسروالا يتهادى فوق كعبين عاليين، وقد غطت ألوان التبرج وجهها، وتمايل شعرها الأسود الطويل تحت قبعتها. لم يثر شكله الأنثوي أي شكوك، فتمكن هذا الفلسطيني الآتي من طولكرم في الضفة الغربية، من تنفيذ مهمته على مرأى من الساهرين المذعورين، الذين كانوا ينوون الاستمتاع بعشاء فاخر لمناسبة عيد الفصح اليهودي، في مساء ذلك اليوم الواقع في 27 مارس 2002، لقي ثلاثون شخصاً حتفهم، وجرح ما يزيد على مئة آخرين.