هناك من لايزال يعتقد أن الرئيس العراقي صدام حسين كان على ارتباط بالأميركيين، منذ أن كان طالباً غير نجيب في القاهرة في بدايات عقد ستينيات القرن الماضي، وأن أكبر هدية قدمها لهم هي القيام بما قام به حتى يحصل كل هذا الذي حصل، وتفتح أبواب هذه المنطقة التي كانت مغلقة أمام القوات الأميركية. فهل هذا صحيح؟صمتت دهراً لكنها لم تنطق كفراً، فما قالته السفيرة الأميركية السابقة في بغداد إبريل غلاسبي لإحدى الصحف العربية التي تصدر في لندن قبل أيام، يستحق القراءة أكثر من مرة، فهي بالمعلومات التي أوردتها صححت معطيات مضى عليها وقت طويل، بينما كان يجري التعامل معها على أنها هي الحقائق التي أحاطت بغزو صدام حسين للكويت واحتلالها بالصورة المعروفة، وأنه لا حقائق غيرها على الإطلاق.
إن أهم ما قالته غلاسبي في هذه الإفادة «التي تأخرت نحو ثمانية عشر عاما، والتي غير معروف لماذا تأخرت كل هذه الفترة الطويلة، هو تكذيب الرواية العراقية، التي تحدثت سواء عشية الغزو أو بعده، عن أن هذه السفيرة الأميركية السابقة لدى بلاط الدكتاتور العراقي، قد قالت لصدام حسين قبل أن تغادر بغداد بلا عودة وفي ذلك اللقاء الشهير الذي جرى الحديث عنه كثيراً: «نحن لا نتدخل في خلافات حدودية بين بلدين عربيين»!!
لقد حمّلت غلاسبي مسؤولية هذه الرواية التي قالت عنها إنها غير صحيحة لنائب رئيس الوزراء العراقي طارق عزيز، المعتقل الآن في بغداد في السجون التي بناها صدام حسين، لتكون مأوى للمعارضين من أبناء الشعب العراقي، وهي كشفت النقاب - ولو متأخرة كل هذه الأعوام - عن أن الرسالة التي أبلغتها لرئيس العراق السابق خلال آخر لقاء به هي: «لا تحتل الكويت وارفع يديك عن هذا البلد... لقد كانت لدي تعليمات وتوجيهات قمت بتنفيذها بحذافيرها، ولقد قررت أنه ينبغي عدم القيام بأي عمل ضد هذا البلد... إنني أعتقد أن جيمس بيكر فضل تحميلي اللوم حتى لا يحمله لنفسه».
فهل يجب تصديق رواية غلاسبي الجديدة هذه التي تأخرت زهاء ثمانية عشر عاما، أم أن الرواية القديمة التي تحدثت عن أن السفيرة الأميركية السابقة في بغداد قد أبلغت صدام حسين عندما التقته عشية الغزو المشؤوم أن بلادها لا تتدخل في خلافات حدودية بين بلدين عربيين، هي الصحيحة؟!
أغلب الظن أن رواية غلاسبي الجديدة هذه هي الصحيحة، لكن ما كان يجب أن تسأل عنه هو، لماذا لاذت بهذا الصمت المريب كل هذه الأعوام؟ ولماذا لم يرد جيمس بيكر على الرواية التي فبركها طارق عزيز للإيحاء لدول الخليج والعرب كلهم بأن الأميركيين راضون عن هذا الغزو، وإنْ هم لم يؤيدوه بصورة معلنة؟ ولماذا بقيت الإدارة الأميركية صامتة حتى الآن؟ ولماذا لم يثر الديموقراطيون هذه المسألة ضد الجمهوريين ويتعاملوا معها كفضيحة ضد بوش الأب وضد بوش الابن على حدّ سواء؟
في كل الأحوال... إن ما يعزز رواية غلاسبي الجديدة، وإن ما يؤكد أن رواية: «إن أميركا لا تتدخل في خلافات حدودية بين بلدين عربيين» هي من اختراع طارق عزيز، الذي كان يعتبر أهم عقلية مناورة في المجموعة التي كانت تحيط بصدام حسين، هو أن العقل الباطني لهذه المجموعة ورئيسها كان يقول لها إنه لابد من أن تقدم أميركا مكافأة لهم ولنظامهم، لأنهم خاضوا نيابة عنها حرب الثمانية أعوام مع إيران، ولأنهم أوقفوا انتقال ثورة الخميني إلى خارج الحدود الإيرانية، وأن هذه المكافأه ستكون الصمت على غزو الكويت وإلغائها كدولة.
لا يمكن فهم واستيعاب لماذا بقيت السفيرة الأميركية السابقة صامتة كل هذه السنوات، ولماذا بقي بوش الأب صامتاً، ولماذا لم يثر الديموقراطيون في الانتخابات التي فاز فيها كلينتون أول مرة في هذه المسألة الخطيرة، ثم لماذا لا يثيرونها الآن... لماذا كل هذا الصمت وما الحقيقة؟
هناك رواية قيلت سابقاً ولاتزال تقال حتى الآن، وهي أن الولايات المتحدة، التي كانت خططت لوجودها العسكري الحالي في هذه المنطقة منذ بدايات سبعينيات القرن الماضي لأسباب معروفة، قيلت وجرى الحديث عنها كثيراً، قد استدرجت صدام حسين استدراجاً للقيام بمغامرة غزو الكويت واحتلالها... واستناداً إلى هذه الرواية هناك من لايزال يعتقد أن الرئيس العراقي هذا كان على ارتباط بالأميركيين منذ أن كان طالباً غير نجيب في القاهرة في بدايات عقد ستينيات القرن الماضي، وأن أكبر هدية قدمها لهم هي القيام بما قام به حتى يحصل كل هذا الذي حصل، وتفتح أبواب هذه المنطقة التي كانت مغلقة أمام القوات الأميركية.
فهل هذا صحيح؟ إنه لابد من إثارة هذا الذي قالته غلاسبي في روايتها الجديدة... وإنه لابد من أن يدقق الكويتيون في هذا الكلام الخطير الذي إن كان هو الحقيقة فإن هذا يعني أن صمت الأميركيين كل هذه الأعوام على رواية صدام حسين وزمرته، الآنفة الذكر، قد كان جزءاً من المؤامرة على هذا البلد وأهله!!
* كاتب وسياسي أردني