في ألا نقاوم التطرف بمثله
يرى كثير من المسلمين وفي مقدمتهم قادة تيارات الإسلام السياسي ومشايخ الإسلام التقليدي، في العلمانية تدميراً للإسلام وخيانة للإرث الإسلامي الثقافي والتاريخي، ولا يفعل بعض العلمانيين والليبراليين العرب إلا توكيد هذه النظرة وترسيخها، إلى الدرجة التي يمكن قريباً ربما تصنيف العلمانيين العرب إلى أولئك «الوسطيين» و«الوهابيين».
رغم تجلياته التي تتسم بالقسوة والعنف، يعبر التطرف الإسلامي في خطابه العصابي عن رعب وخوف لا يحسن توريتهما، بالتوازي مع المحاولات الصوتية حيناً والعنفية حيناً آخر، من أجل توكيد الذات المهدورة والمهددة والمتآمر عليها، يبرز ذاك الخوف من الآخر الذي يبدو لها أنه من يقوم بالهدر والتهديد والتآمر. تلك الصفات تشترك بها الأصوليات الدينية جميعها، التي يتميز خطابها بعداء سافر للآخر وحط من قيمته وتسفيه لقيمه وإنسانيته. هذا مفهوم، أو يفترض أن يكون كذلك لمن يتصدى الى مواضيع التطرف والأصولية في الإسلام أو غيره من الأديان، وجميعها عرفت أشكالاً من التطرف تختلف ظاهراً وتلتقي مضموناً، لكن ما هو غير مفهوم، أن يستعير قسم من الفريق المقابل الخطاب العدواني ذاته، مترجماً إياه بلغة الحداثة والعلمانية ومقدماً إياه على أنه الرد الطبيعي والعقلاني على قوى الظلام والتخلف! يبدو الأمر شبيهاً إلى حد بعيد بإسلامي متشدد يدعي الحداثة إذا قام بترجمة كتاب «معالم على الطريق» لسيد قطب إلى اللغة الإنكليزية!يرى كثير من المسلمين وفي مقدمتهم قادة تيارات الإسلام السياسي ومشايخ الإسلام التقليدي، في العلمانية تدميراً للإسلام وخيانة للإرث الإسلامي الثقافي والتاريخي. ولا يفعل بعض العلمانيين والليبراليين العرب إلا توكيد هذه النظرة وترسيخها، إلى الدرجة التي يمكن قريباً ربما تصنيف العلمانيين العرب إلى أولئك «الوسطيين» و«الوهابيين». فكما الأصوليون، بقي أولئك أسرى الماضي تاريخاً وتراثاَ، نصاً وتطبيقاً. هم لا يرون حلاً لنكبات الحاضر العربي ومآسيه إلا بتطبيق سياسة الماضي المحروق والحاضر «المعقّم» من عناصره البشرية المعادية، بينما يأخذ المتطرفون الإسلاميون بالسياسة نفسها «مشقلبة» في شقها الأول، أي سياسة الحاضر المحروق، ومطابقة في شقها الثاني! نظرات التوجس والريبة والاستعداد للنيل من الآخر، متبادلة بين هؤلاء وأولئك. ولم يعد الأمر مجرد قيم حرية واستقلالية فردية وعقلانية في مواجهة الشمولية والقيود الفكرية والميثيولوجيا الدينية كمنطق ومنهج للفكر والعمل. بل أصبحت المعركة أنا في مقابل الآخر، والنتائج لا تقبل أن تنتهي بأقل من الإبادة. يصل التطرف العلماني والليبرالي في بعض أشكاله إلى التنازل عن أهم ما يفترض أنه القيم المدافع عنها في وجه القوى المضادة، أي قيم الحرية الفردية وحقوق الإنسان. من ذلك على سبيل المثال، تبرير أو إنكار أو التغاضي عن -ولا يقل أحدهم سوءاً عن الآخر- ممارسات الأنظمة الحاكمة من الاعتقالات العشوائية في صفوف من يتهمون بالتشدد وتعرضهم لأبشع أنواع التعذيب وإساءة المعاملة الحاطة للكرامة الإنسانية. وهي «العقيدة» نفسها ربما التي تبرر للمتطرف العنفي تفجير نفسه وسط الأبرياء، الذين لا يستحقون الحياة بسبب عقيدتهم الفاسدة وغير المؤتلفة مع ما يراه خيره المحض وقيمه المقدسة. كما يذهب آخرون إلى إضفاء الشرعية الفكرية على توجيه الضربات المتتالية من قبل السلطات الحاكمة لحركات الإسلام السياسي غير العنفية. وهنا نلحظ أن المنظمات الحقوقية الأميركية هي التي قادت وتقود الحملات المستمرة من أجل إغلاق معتقل غوانتانامو ووقف عمليات التعذيب في سجن أبو غريب. أما في دولنا العربية والإسلامية، فيتمحور الحديث من قبل بعض التيارات القومية ومن لف لفها، عن الانتهاكات الأميركية لحقوق الإنسان، ولا يجري التطرق إلا بخجل لسجون غوانتانامو وأبو غريب الممتدة على مدى الخارطة العربية والإسلامية.وليس ذلك فقط، فإن مواجهة التطرف بمثله من شأنها أن تجعله أكثر تطرفاً وعدائية، كما «اكتشف» كتاب ومحللون غربيون كثيرون اخيراً، بل هو وقبل كل شيء، مدى الإيمان الفعلي بالقيم التي يُدان الآخر المتشدد لعدم احترامها، بل استبعادها كلية من ضمن منظومة قيمه. هناك فرق كبير بين الموقف الفكري الرافض إلى جلب المقدس للسياسة واعتماد الميثيولوجيا الدينية كأساس لبرنامج عمل سياسي حياتي والدفاع عن قيم الحرية والاستقلالية الفردية، وتبرير الاستبداد وتلطيف إجراءاته القمعية، بل جعلها ضرورية للحفاظ على «علمانية» الدولة حيناً، أو أمنها وأمانها حيناً آخر. لا يعني ما سبق تبني خطاب توفيقي يعمل على إرضاء قيصر والله في الوقت نفسه. أو العزوف عن نقد الفكر الديني ومقارعته بالعقل والمنطق، على العكس من ذلك، فإنه يعني إفساح الطريق أمام هذا النقد وتلك المقارعة. ودعونا نتذكر أن خطاب كل من العلمانية والليبرالية لايزال خطاباً غريباً إلى حد بعيد عن وعي المواطن العربي والمسلم ومن العبث العمل على تعميق هذه الغربة وترسيخها. وليس نادراً أن غثاً قليلاً يذهب بكثير من الغنى وببساطة متناهية. *كاتبة سورية