يتسم الإعلام الغربي بعادة الاستمرار في تغذية نوبات الغضب. ومن عجيب المفارقات هنا أن آخر نوبات الغضب في الصين كانت تتعلق بالغذاء ذاته. وهذا الأسبوع، جاء إعدام زن زيايو رئيس هيئة الأغذية والعقاقير السابق في الحكومة الصينية، الذي تلقى ما يقرب من المليون دولار أميركي في هيئة رشاوى، ليؤكد أن هذا النوع من السُـعار الإعلامي قد تسرب إلى الصين أيضاً.
في مستهل الأمر، ظهر فيض من المقالات والأخبار التي تحدثت عن أطعمة للحيوانات الأليفة تحتوي على مادة الملامين (أحد مشتقات الفحم)، وعلاج للسعال ومعجون أسنان ملوثين بمادة ثنائي الإيثيلين غلايكول (مادة كيميائية صناعية حلوة المذاق تستخدم في تصنيع السوائل المقاومة للتجمد وسوائل مكابح السيارات)، وألعاب أطفال مزينة بطلاء يدخل في تركيبه الرصاص، ومضادات حيوية ملوثة بالبكتيريا، وبطاريات هواتف نقالة قابلة للانفجار، وإطارات سيارات معيبة.والآن تحول الاهتمام إلى الغذاء. فقد امتلأت الصحف العالمية بأخبار عن عسل نحل مضاف إليه مُـحليات صناعية، وأغذية معلبة ملوثة بالبكتيريا وكميات مفرطة من المواد الحافظة، ونبيذ أرز مزود بكحول صناعي، وأسماك وحيوانات بحرية تغذت على جرعات ضخمة من المضادات الحيوية ثم غُـسِلت بمادة الفرومالدهايد لتخفيض مستوى البكتيريا بها.كانت استجابة الحكومة الصينية شبه فورية. فلقد أجرت الإدارة العامة لمراقبة الجودة والإشراف والتفتيش والحجر مسحاً شاملاً ثم أصدرت تقريراً مفاده أن %20 من المنتجات المصنوعة في الصين للاستهلاك المحلي لا تتفق مع معايير السلامة والجودة. وفي نفس الوقت كثفت الأجهزة الرقابية من حملاتها التفتيشية، فأغلقت حوالي 180 شركة من شركات تصنيع الأغذية، وتنشر الآن أسماء المخالفين على مواقعها على شبكة الإنترنت.لم تكتف الحكومة الصينية بإعدام زن زيايو، بل لقد صدر الحكم أيضاً بإعدام تشاو وينـزوانغ، المسؤول عن تسجيل العقاقير لدى هيئة الأغذية والعقاقير، بعد إدانته بتقاضي رشاوى بلغت حوالي ثلاثمئة ألف دولار أميركي من شركات تصنيع العقاقير. ومما لا شك فيه أن الحسابات التي استند إليها هذان الحكمان تقوم على نظرية «اضرب المربوط يخاف السائب».ولكن لماذا يدهشنا كل هذا؟ فمن المعروف أن هذه «الرأسمالية ذات الخصائص الصينية» كانت عبارة عن فوضى مستباحة للجميع لبعض الوقت. ومن المعروف أيضاً أن ما يقرب من %75 من الإنتاج الغذائي في الصين يتم بواسطة شركات صغيرة خاصة وغير مرخصة. ومن المؤكد أن مراقبة أعمال ومنتجات مثل هذا النوع من الكيانات ليس بالأمر اليسير على الإطلاق.على الرغم من افتقار الأجانب إلى الإلمام الكافي بالتغيرات البنيوية التي تشهدها الصين، إلا أنهم ظلوا يستثمرون، ويشترون، ويتاجرون ويفرطون في امتداح «ازدهار الصين الاقتصادي» المذهل، على الرغم من تهوره. أما الخوف من الوقوع في خطأ «تقريع الصين» فقد كان سبباً في منع «أصدقاء الصين» المزعومين من مناقشة الجانب المظلم من هذا الازدهار الاقتصادي على نحو أكثر انفتاحاً.إلا أن المواطنين الصينيين أنفسهم كانوا يدركون أن نقاء أطعمتهم وأدويتهم والمياه التي يشربونها والهواء الذي يتنفسونه قد أصبحت موضع شك. فقد كانت الأخبار المتسربة من القنوات الخلفية عامرة بالشائعات عن انحرافات بالغة. على سبيل المثال، كانت إحدى الشركات التافهة تطحن الصخور الرسوبية وتضعها في كبسولات من الجل لتبيعها كدواء. وكان أفراد إحدى القرى يغيرون على مستودع نفايات خاص بأحد المستشفيات بحثاً عن المعدات الجراحية، التي يغسلونها في قناة مائية قريبة، ثم يعيدون تغليفها في حاويات بلاستيكية محكمة ومطبوع عليها عبارة «معقم»، ويبيعونها إلى نفس المستشفى بأسعار مخفضة.بطبيعة الحال، كانت كراهية الحزب الشيوعي للصحافة الحرة والمجتمع المدني النشط، اللذين يشكلان مصدراً أساسياً للمردود المعلوماتي المجتمعي اللازم لضمان رفاهية أي بلد في العالم، سبباً في تفاقم المشكلة.كما كان عجز الهيئات الرقابية في الصين عن ملاحقة النمو الاقتصادي الهائل من بين الأسباب أيضاً التي أدت إلى تفاقم هذا الوضع. على سبيل المثال، يعمل أقل من ثلاثمئة موظف في مكتب وزارة الدولة الصينية لحماية البيئة في بكين، بينما يعمل أكثر من 17 ألف موظف في وزارة حماية البيئة في الولايات المتحدة.إن سعي الصين المحموم إلى الثروة والقوة جعلها عاجزة عن تنمية جميع المؤسسات التعويضية التي يحتاج إليها أي مجتمع متقدم حقاً، ولن نقول أي مجتمع مستنير، من أجل إيجاد التوازن المستقر والصحة الاجتماعية.إلا أنه في عالم اليوم الذي تحكمه العولمة، حيث تحولت الحدود الوطنية إلى نقاط تشابك لأشكال لا تحصى من التفاعلات التي يتعذر ضبطها، تحولت أي مشكلة تعاني منها أي دولة إلى مشكلة تواجه كل الدول في الواقع الفعلي للأمر. لذا، فقبل أن نشرع نحن في الغرب في توجيه الانتقادات الشديدة إلى المشاكل المرتبطة بمراقبة الجودة في الصين، يتعين علينا أن نتذكر إسهامنا الفعّال في تحويل الصين إلى متنـزه صناعي دولي ومستودع نفايات عالمي للعديد من الصناعات السامة. ومع أننا كثيراً ما نبدي تذمرنا من خسارة الوظائف المرتبطة بالصناعات نتيجة انتقال التصنيع إلى الخارج، إلا أننا وبكل تأكيد لا نبدي أي قدر من الانزعاج إزاء تصديرنا لكميات هائلة من التلوث إلى الصين.قد تندم الصين ذات يوم على اندفاعها المتهور في معانقة التصنيع. ولقد بدأ الصينيون بالفعل في الإفاقة من افتتانهم بالتنمية الذي أصبح يحاصرهم الآن وقد شرعوا في الخروج من سجن الثورة الثقافية التي حرمتهم من السلع الترفيهية. ففي عالم النُـدرة الذي نحيا فيه اليوم أصبحت كل زيادة موضع ترحيب على الدوام.ولكن الآن، وكما أدرك الغرب منذ عقود عدة أن البيئة الطبيعية تحدها حدود، بدأت الصين تبدي أول إشارات الدخول إلى مرحلة ما بعد الصناعة. لذا فقد بات لزاماً علينا الآن، بدلاً من إغلاق الأبواب أمام المنتجات الصينية، أن نفكر في مساعدة الصين من خلال فتح أبواب هيئاتنا الرقابية والتنظيمية أمام المسؤولين في الصين.إننا بهذا نكون قد ساعدنا أنفسنا في واقع الأمر. ذلك أننا، حتى في وجود «منافسين استراتيجيين» مثل الصين، نعيش الآن ظروفاً مشتركة، حيث نتقاسم الهواء، والماء، والسلع المصنعة، بل وحتى الغذاء. * أورفيلي شل ، مدير مركز العلاقات الصينية - الأميركية التابع لـ«جمعية آسيا».«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
كابوس الصين الصناعي
16-07-2007