Ad

لايستحق فيلم المملكة قرار منع عرضه في أقطار مجلس التعاون الخليجي، لأن هذا الإجراء أضفى على الفيلم جاذبية ليست فيه، إضافة إلى أن مبدأ المنع في ظل ثورة الاتصالات، لا جدوى منه.

* اعترف، بداية، أني ترددت كثيراً في الذهاب لمشاهدة فيلم «المملكة The Kingdom» لظني أنه مجرد فيلم أميركي من فصيلة «الأكشن» الذي يبدو فيه ضابط المخابرات الأميركي بأهاب الفارس المغوار، منقذ العالم من الأشرار كل الذين يعيثون فيه إجراماً وإرهاباً وممارسات عدوانية طاغية. في بهو دار العرض وقفنا، بعلتي وأنا، نبحلق ملياً «بأفيش» الفيلم الطافح بالأسلحة المتطورة المدجج بها أبطال الفيلم الثلاثة «جميس فوكس، جنيفر جارنر، كريسي كوير»، وقد تربعت وسط الصورة الدعائية للفيلم عبارة تقول لك

«How do you stop an enemy who is not afraid to die!».

ولا أعرف ماذا كانت جملة «كيف تردع عدواً لا يهاب الموت» تنطوي على مديح بهذا العدو أم ذم فيه! لاسيما أن هذه المقولة تعني الإرهاب والإرهابيين، أيا كان الأمر، فالفيلم يشي بأن الاستجابة الأميركية لتحدي الإرهاب تكمن في استخدام القوة فحسب، ذلك «ان القوة العسكرية هي أداة أميركا الوحيدة الآن في الحرب، وستبقى كذلك مادام استمر العمل بالسياسات الحالية. ولن تتمكن أي دبلوماسية، أو إشادة رئاسية بالإسلام، أو إقامة حوارات سياسية من تغطية حقيقة أن العديد من مسلمي العالم البالغ عددهم 1.3 مليار مسلم يكرهوننا بسبب أفعالنا، لا بسبب القيم التي نؤمن بها، فأي من تلك الحلول البديلة لن تتمكن من إنقاذ أميركا وإخراجها من هذه الحرب بحسب قول «مايكل شوير» في مقدمته لمؤلفه «الغطرسة الإمبريالية الأميركية - لماذا يخسر الغرب الحرب على الإرهاب»؟

* يبدأ الفيلم بلقطات وثائقية سريعة الإيقاع، تستعرض تاريخ العلاقات الأميركية- السعودية، وتُعرض للمشاهد أبرز أحداثه مثل؛ اكتشاف النفط في المملكة العربية السعودية 1938م، ومن ثم تأسيس شركة النفط العربية الأميركية «أرامكو»، ولقاء الملك عبدالعزيز بالرئيس الأميركي «روزفلت» على متن مدمرة أميركية في البحيرات المرة بمصر 1945، إثر انتصار الحلفاء على دول المحور في الحرب العالمية الثانية، إضافة إلى قرار منع تصدير النفط خلال حرب أكتوبر 1973، وغزو عراق صدام لدولة الكويت عام 1990، وحرب تحريرها الذي انطلق من الأراضي السعودية عام 1991. ووسط هذه اللقطات السينمائية الوثائقية اختار السيناريست أن يذكر المشاهد برأي «بن لادن» الرافض لوجود القوات الأميركية في الجزيرة العربية، إلى حد مجابهته بالجهاد! ثم تتواتر اللقطات للأعمال الإرهابية التي استهدفت سفارات وقوات أميركية. وتنتهي المقدمة الوثائقية «بغزوة نيويورك» على قولة بن لادن نفسه في معرض اعترافه بمسؤولية تنظيم القاعدة عن تفجير برجي مركز التجارة العالمي. ومن ثم بدأت الأحداث الدرامية للفيلم: ثمة مجمع سكني يقطنه أميركيون، يشابه أي مجمع سكني في الولايات المتحدة الأميركية، يمارسون فيه حياتهم العادية في عطلة نهاية الأسبوع: يلعبون «البيسبول» ويعومون -نساء ورجالا- في حمام السباحة، ويتحلقون حول شوايات «الباربيكيو» يحتسون الجعة «والعياذ بالله» وغيرها، وفجأة يخترق رجال الأمن السعودي أفراد مسلحون متخفون بأزياء رجال الشركة، يقتحمون المجمع ويطيحون بمن فيه قتلاً عشوائيا، يبلغ ذروته في تفجير أحد الإرهابيين نفسه وسط جمع من سكان المجمع، ويهربون كالأشباح!

* حتى هذه اللحظة لم يأت صناع الفيلم «بجديد»، لأن الهجوم الإرهابي على المجمع السكني يضاهي الهجمات الإرهابية التي ابتليت بها مدينة الرياض عام 2003. ولعل الجديد هو أن أحد الضحايا الذين قضوا بسبب الهجوم الارهابي هو أحد ضباط المباحث الفدرالية «F.B.I»، الأمر الذي أفضى بأحداث الفيلم إلى الانتقال إلى أميركا لنشهد الخلاف الحاد الناشب بين وزارة الخارجية الأميركية، والمباحث الفدرالية بشأن إرسال فريق تحقيق لموقع الحادث في العاصمة السعودية. وقد حسم الأمر لمصلحة إرسال الفريق فوراً. ويجابه الفريق بعقبات ومحاذير سعودية تستوجب عليه إنجاز مهمته في مدة قصيرة، وهنا يتجلى دور ضابط الأمن السعودي وتجاوزه العقبات الإدارية كلها، إضافة إلى تحديه الأعراف والتقاليد المحلية ليمكّن الأميركيين من الوصول إلى الحقيقة! وتتطور أحداث الفيلم وتزداد جرعة «الأكشن» والحركات الدرامية المفاجئة حين يتحول فريق التحقيق نفسه إلى هدف للإرهابيين، الذين يتمكنون من خطف أحد أعضائه ليتم نحره (على الهواء) مباشرة أمام كاميرات التلفزيون، كما هو دأب إرهابيي «القاعدة» وغيرهم.

الشاهد أن الفيلم ينتهي نهاية هوليوودية مترعة بالسعادة، حيث يتمكن الفريق الأميركي من إنقاذ زميلهم المختطف وإبادة الإرهابيين جميعهم بمن فيهم زعيمهم «أبو حمزة»، الذي نراه يهمس في أذن حفيده لحظة احتضاره قائلاً «سنقتلهم جميعاً»، بينما يردد بطل الفيلم دونالد فليري الممثل «جيمي فوكس» المقولة نفسها يلعلع بها في أذن زميله «سنقتلهم جميعاً»! ووفق استراتيجية «داوني بالتي كانت هي الداء»، وتكتيك «لا يفل الحديد إلا الحديد» المتبديتين في مجابهة الإرهاب، ينتهي الفيلم بزبدة لكل هذه الهذرة قوامها أن الأميركيين- وحدهم- القادرون على مجابهة الإرهاب بعتادهم العسكري الذي لا يُبقي ولا يذر!

لكن الأحداث الإرهابية التالية التي وقعت بعد تفجير البرجين تدل على إخفاق الولايات المتحدة الأميركية في القضاء على الإرهاب واجتثاثه من جذوره، حسبنا سماع أخبار كل يوم الخاصة بالعمليات الإرهابية ليتأكد المرء من صحة ما زعمته آنفا!

* حين غادرنا دار العرض السينمائي قلت لأم البنين: كم أتمنى لو أن هذا الخلاص الهوليوودي من بلية الإرهاب يمارسه «الحلفاء» الأميركيون في العراق وأفغانستان وغيرهما ليعم السلام والأمن العالم كله، ويقطع دابر الإرهابيين. لم تحفل مولاتي بمقولتي ربما لأنها حزينة على اغتيال الإرهابيين الضابط السعودي العقيد فارس الغازي والذي شخَّص دوره باتقان مدهش الممثل الفلسطيني ذو الجنسية الإسرائيلية «أشرف برهوم». بقيت مسألة لابد من الإفصاح عنها، وهي تكمن في منع عرض الفيلم في أقطار مجلس التعاون الخليجي... كما قرأت في الصحف، فهو لا يستحق المنع، لأن هذا الإجراء أضفى على الفيلم جاذبية ليست فيه. اضافة إلى أن مبدأ المنع في ظل ثورة الاتصالات، لا جدوى منه، لأن الممنوع عن شاشة دور العرض السينمائي سيكون متاحاً عبر الفضائيات الأجنبية، ومتوفراً في فضاء الإنترنت المشرع على الجهات الأربع.

لقد سبق لي الإشارة إلى أن مجابهة الإرهاب بالتصدي الأمني والعسكري وحده لن يكون احتواؤه والسيطرة عليه في مقدوره. ذلك ان الإرهابيين يتكئون على فقه «إسلامي» يحرضهم على قتل العدو والنفس معاً، لكي يروح العدو إلى جهنم الحمراء، بينما «يبلبط» الانتحاري بأنهار الجنة! والمهم إذا قام الطرفان بمجابهة بعضهما وفق شعار «سنقتلهم جميعاً» أخشى القول إن هذه الممارسة ستقتل الناس جميعاً سوى الإرهابيين!